زين الرجال.. كان فنانا حتى أطراف أصابعه

الحسن محمد سعيد

الحسن محمد سعيد –
رحم الله سيد أحمد الحردلو زين الرجال في إحدى الأمسيات كنا نسير معا في شوارع صنعاء وكان يحب هذه المدينة وأهلها ويعشق أمسياتها ومجالس «قاتها» توقف فجأة وقال لي خالطا الجد بالهزل :
– قلبي يحدثني بأنني سأموت قبلك ماذا ستكتب عني¿!
تعجبت لهذا القول الذي رماه علي دون مقدمات فانداحت دواخلي التي كانت ساكنة في شكل دوائر تتلاحق كأنها سطح بحيرة تلقت حجرا من السماء.
قلت مازحا وأنا أغالب لطمة حديث كالهول الأعظم :
– سأكتب عنك ما كتبه الشاعر صلاح عبدالصبور عن إبراهيم المازني في كتابه القيم «ماذا يبقى منهم للتاريخ» وهو يتحدث عن عمالقة التنوير في مصر سأقول للناس «كان فنانا حتى أطراف أصابعه» شعرت لحظتئذ أن عبارتي المازحة أراحته فأطلق قهقهته العالية ذات اللزمة الخاصة به ومضينا في طريقنا نواصل ما انقطع من حديث.
ظل هذا الموقف حاضرا في ذهني ومحفورا في ذاكرتي وها هو الآن يتجدد مجلجلا فقد صدق حدسه إذ اختاره الله إلى جواره وأصبح واجبا علي أن أفي ما وعدته به وها أنذا أقول لكم صادقا : «كان فنانا حتى أطراف أصابعه» والغريب في الأمر أن تلك «العبارة» ألحت علي في موقفين :
الأول : عندما توفى المهندس والفنان التشكيلي والكركتيرست والكاتب اليمني الساخر عبداللطيف الربيع فجاءتني تدق باب الذاكرة وهي أكثر صدقا في التعبير عن هذا الفنان الرائع.
والثاني : عندما توفى الفنان السوداني محمد وردي فسكنتني هذه «العبارة» نائحة تطرق أبوابي في رثاء هذا الفنان العملاق.
إنني أشعر الآن كأني على قدر معها فقد رحل الشاعر الإنسان!!
علاقتي بالحردلو ترجع لعام 1965م ولكن حقيقة كنت أعرفه دون أن يعرفني قبل هذا التاريخ لأنه شاعر له اسمه في الساحة الأدبية السودانية.
ومن المواقف التي يجب أن تذكر وقد «جاء يوم شكره» أن جاءني الصديق محمود محمد مدني رحمه الله وهو يحمل ظرفا أعطاني الظرف وطلب مني قراءة ما فيه والتفاكر حوله.
فتحت الظرف فوجدت فيه مخطوطا بقلم الحبر الأزرق عبارة عن أوراق «فولسكاب» أبيض مستطيل بخط يد نظيف وواضح الحروف والكلمات كل مجموعة منها «مدبسة» مع بعضها وتمثل «حلقة» لمقال ينشر على خمس حلقات لفت نظري اسم سيد أحمد الحردلو فتوقفت قليلا ثم واصلت التهام الكلمات والسطور فانطبع الخط ورسم الحرف في ذهني وصرت من يومها أعرف خط الحردلو من بين مئات الخطوط.
الموضوع كان عبارة عن رسالة طويلة موجهة إلى رئيس الوزراء كان ذلك قبل شهور من ثورة أكتوبر 1964م أبان فترة الديمقراطية التي أعقبت حكم الفريق إبراهيم عبود «العسكري».
كان وقتئذ رئيس الوزراء هو محمد أحمد محجوب كما أنه في نفس الوقت يشغل منصب وزير الخارجية.
كانت رسالة الحردلو الشخصية لمحمود محمد مدني هي الرجاء بنشر ذلك المقال في واحدة من الصحف المستقلة : «الأيام» أو «الصحافة» أو «الرأي العام» وكان محمود محمد مدني في ذلك الزمن يعمل ضمن هيئة تحرير صحيفة «الصحافة» استعجبت!! لماذا لم يعمل محمود على نشر المقال في جريدة «الصحافة» التي يعمل بها¿!! لم أسأله!!
أخذت المقال وقرأته بتأن وعمق ساعدني على ذلك جمال لفظه وقوة منطقه وشجاعة كاتبه وشاعرية كلمته.
حينما جاءني محمود محمد مدني في اليوم التالي لم أجد صعوبة في إقناعه بنشر المقال في جريدة «الميدان» الناطقة بإسم الحزب الشيوعي السوداني وكان وقتها قد تحالفت الأحزاب التقليدية لإقصاء حكومة التوافق الوطني التي أعقبت ثورة أكتوبر مباشرة كانت الأحزاب التقليدية تواقة لإجراء إنتخابات وتشكيل حكومة ديمقراطية وتم ما أرادت حيث تولى فيها إسماعيل الأزهري رئاسة مجلس السيادة ومحمد أحمد محجوب رئاسة مجلس الوزراء إلى جانب وزارة الخارجية.
وأذكر أننا ذهبنا معا لجريدة «الميدان» وكانت بالقرب من مطبعة التمدن بالخرطوم فوجدنا سمير جرجس وعمر مصطفى المكي وآخرين لا أعرفهم ربما التجاني الطيب كان واحدا منهم لا أذكر بالضبط قلنا للأستاذ سمير جرجس : هذا المقال أرسله سيد أحمد الحردلو من القاهرة وطلب نشره في جريدة «الأيام» أو «الصحافة» أو «الرأي العام» ولكنا وعلى مسؤوليتنا خالفنا طلبه وجئنا بالمقال إلى «الميدان» فإن لم «تنشروه» نرجو إعادته لنا.
أذكر أن سمير جرجس أخذ المقال دون أن يبدي لنا اهتماما به لكنه وعدنا مخلصا بأنه إذا لم ينشره سيعيده إلينا.
كانت المفاجأة أن وجدنا المقال منشورا في اليوم التالي في جريدة الميدان وبإخراج واضح وبارز ثم واظبت على نشره بطريقة متوالية بل إنني عرفت فيما بعد أن نسبة توزيع «الميدان» قد زادت بطريقة غير مألوفة والسبب يرجع لذلك المقال الفريد.
عندما حضر الحردلو من القاهرة أتى به محمود محمد مدني إلى منزلنا في حي «ا

قد يعجبك ايضا