القاهرة – محمد عمر –
أصبحت النهضة مطلباٍ ملحاٍ للمجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة التي تعيش حالة من التخلف والتأخر والتشتت في حين أن العالم من حولها يسير نحو الأفضل في دروب التقدم والتطور والغنى والوحدة .
السؤال الذي يفرض نفسه: كيف لأمتنا العربية والإسلامية النهوض والعودة لسابق عهدها حين كانت تتسيد العالم¿ وكيف تتحقق النهضة الحضارية للمسلمين في عصرنا الحديث¿ يتفق علماء الأمة ومفكروها وباحثوها على أن النهضة لا بد أن تتكامل أركانها حتى يستطيع المسلمون الوصول إلى التقدم المنشود فيتحقق التطور على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والثقافية والأدبية والزراعية مع اتباع المنهج الإلهي الذي رسمه لنا سبحانه في كتابه الحكيم وسنة رسوله الكريم . . ولو سار المسلمون وفق المبادئ الإسلامية السمحة مع الأخذ بتلابيب الثورة التكنولوجية والتمسك بالوحدة في ما بينهم لتذليل الصعوبات والمعوقات التي تقف حجر عثرة في طريق تقدمهم لأصبحوا قوة عظمى تستطيع أن تسود العالم أجمع خاصة أن أمتنا الإسلامية تمتلك جميع مقومات النهضة والتقدم .
في البداية يقول عضو هيئة كبار العلماء د .نصر فريد واصل أستاذ الشريعة الإسلامية مفتي الديار المصرية الأسبق: النهضة علم وثقافة وفكر قبل أن تكون صناعة وموارد طبيعية فالعناصر المادية وحدها غير كفيلة بتحقيق التقدم ولقد تخلفنا عندما غيبنا عقولنا لفترة طويلة وأهملنا قيمة العلم والتفكير السليم الذي يوجه طاقاتنا التوجيه الأفضل نحو استغلال الثروات والموارد الطبيعية .
إعلاء شأن العقل
ويضيف: إن هناك شروطاٍ يجب الأخذ بها كي نصل للنهضة المنشودة منها محو صفة كوننا عالة على الآخرين فننتج أكلنا وشربنا ودواءنا ووسائل ركوبنا وغير ذلك من الأجهزة التي نستخدمها في حياتنا اليومية . . فكلما طال اعتمادنا على ما يصنعه وينتجه غيرنا طالت كبوتنا وزاد تخلفنا .
ويشير إلى أنه يجب على المسلمين أن يتجاوزوا مرحلة إطلاق الشعارات الجوفاء والكلام الذي لا يغير من الواقع شيئا فيعلون من شأن العقل ومن قيمة العلم فما لدينا من مقومات النهضة هو ما يمتلكه غيرنا ولذا لا بد من الأخذ بأسباب التقدم واستغلال المقومات المادية التي نمتلكها لزيادة الإنتاج بل إننا نمتلك ميزة لا توجد لمن هم سوانا وهي أنه لدينا دين يحثنا على العمل وحسن الأداء ويعتبر أن العمل عبادة يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى .
ويؤكد أن نهضتنا لن تتحقق بالأمنيات والشعارات لأن التغيير يحتاج إلى همة عالية وخطط جادة . . وطالب المسلمين باتخاذ خطوات شجاعة تنقل أمتنا من مرحلة السكون إلى الحركة والعمل والتقدم والانطلاق نحو المستقبل بكل همة وشجاعة .
جامدون وجاحدون
ويقول د . أحمد محمود كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر: عاش آباؤنا الأوائل عصراٍ مزدهراٍ من التقدم والنهضة وكان السبب الرئيس في ارتقائهم وتقدمهم هو تمسكهم بمبادئ الدين الحنيف وقت أن كان الإسلام اسماٍ وفعلاٍ . . أما الآن فقد تخلى المسلمون عن تعاليم كتابهم الحكيم وأصبح الإسلام بالنسبة لهم مجرد اسم بلا فعل فتردى حالهم وتدنى وضعهم . . والمتأمل في الحضارة الغربية يجد أن تخلقهم بما أمرنا به الله عز وجل من الأسباب الرئيسة التي أدت لنهضتهم .
ويضيف: لقد استشرى بين أبناء المسلمين الفساد والجهل والجبن واليأس وعدم التمسك بالماضي المجيد فضاع الإسلام بين أهله ما بين جامدين لا يطبقون تعاليمه وبين جاحدين ينكرون عليه سموه وعظمته متخذين من الأعداء قدوة لهم رغم أنهم يحيكون لهم المكائد ليسوقوهم نحو الإلحاد مدعين زورٍا وبهتانٍا أن الإسلام سبب انحطاط الأمم فصبغت الدول الإسلامية بصبغة لا تمت لتقاليدها ودينها بصلة فتاهت في دروب التقليد والجحود .
إن المسلمين لا يقرؤون تاريخهم جيداٍ لأن التدين لم يكن في يوم من الأيام سبباٍ للتخلف والرجعية بل على العكس التمسك بالدين هو عماد النهضة وأساسها وهذا ما فطن إليه أعداء الإسلام الذين وضعوه كمعيار للتقدم أو التخلف رغم أن الأمر علمي بحت لا علاقة له بالدين وإلا هل قامت حضارة اليابان أو أمريكا أو أوروبا على أساس ديني¿ أم أن الإسلام وحده هو المعني بالأمر¿
والإجابة هنا قد تكون صحيحة لأنهم بنيتهم الخبيثة يدركون أن الإسلام وثقافته ومبادئه كفيل بتحقيق نهضة أي أمة ولأنهم لا يريدون لأمة الإسلام أن تنهض فإنهم يفرقون بين الدين وأهله كي يظلوا في تخلفهم يعمهون . . فالاستعمار عندما حل على معظم بلاد المسلمين قضى على كل مظهر من التقدم والرقي بها ووأد أي محاولة للنهضة ودفعها في طريق التخلف والتبعية له وشغل أهلها بأمور السياسة حتى لا تستطيع التفكير في ما هو مثمر بالنسبة لأوطانها فاستجاب المسلمون للخطط الخبيثة وهمشوا الدين في مدارسهم فأصبحت مادة التربية الإسلامية ثانوية وأخرجوه من حياتهم فصار بالنسبة لهم مجرد صفة .
إن أول آية نزلت في القرآن الكريم حثتنا على القراءة والتعلم قال تعالى “اقرأ باسم ربك الذي خلق” إلى جانب أن هناك الكثير من الآيات والأحاديث التي تحث المسلم على طلب العلم من المهد إلى اللحد سواء كان ذكرا أو أنثى .
ويشدد د .كريمة على أن العالم الإسلامي إذا أراد أن يعود لسابق عهده من التقدم والمجد فعليه أن يثق في دينه وأن النصر آتُ لا محالة إذا تمسكوا بمبادئ دينهم الحنيف وطبقوها في جميع مناحي حياتهم مع السعي لتعلم العلوم العصرية حتى نسير في ركب الدول المتقدمة فقوة أي أمة الآن تكمن في قوة العلم والمعرفة فالنهضة لا تبنى بأفكار مستوردة بل بفكر وعقل وسواعد أبنائها .
تشخيص الأمراض
ويؤكد د .علي المكاوي أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة أن مستلزمات النهضة تختلف من مجتمع لآخر طبقاٍ لاحتياجات هذا المجتمع وإمكاناته إلا أن المتفق عليه وأثبتته التجارب والتاريخ أن استنساخ التجارب التنموية الغربية فشل فشلاٍ ذريعٍا لأن لكل مجتمع خصوصياته التي لا تنطبق على آخر وبالتالي فإن أولى خطوات العلاج لتحقيق النهضة تبدأ من تشخيص الأمراض التي يعاني منها المجتمع وتقف حجر عثرة في طريق تقدمه ثم محاولة البحث عن طريقة للشفاء العاجل في إطار خصوصية وظروف كل مجتمع كي ننتقل بحلم النهضة لتكوين دولة عصرية قوية تمتلك أدوات التقدم بروح إسلامية صادقة .
ويشير إلى أن التخلف الذي تعاني منه أمتنا الإسلامية لم يصبح مزمناٍ بعد لأنه بمقدور أبناء العرب كسر حاجز الوهن ومعانقة النهضة فهي ليست بعيدة المنال في ظل وسائل التواصل والثورة التكنولوجية التي فتحت الأدمغة على بعضها البعض فأصبح تبادل المعلومات متاحاٍ بصورة تحث المبدع على الابتكار .
ويرى أن سبب تأخير مشروع النهضة في عالمنا العربي يكمن في السلطات التي لا تعمل على حل الأزمات أولا بأول ما يؤدي إلى تراكمها وتعقدها ومن ثم حاجتها لإمكانات أكبر لحلها والأدهى والأمر أن المعنيين في النهاية يستعينون بالخبراء الأجانب ليخرجوا البلاد مما تعانيه من أزمات رغم أن هؤلاء الخبراء لا يعرفون شيئا عن ظروف المجتمع الخاصة وحاجاته وفق تقاليده ومعتقداته وفي الغالب كل ما يهمهم هو الحصول على الأموال الباهظة وفي بعض الأحيان تكون النية مبيتة لتوسيع الفجوة بين الدول العربية والدول المتقدمة وتعميقها وبالتالي تفشل جميع الحلول المستوردة وتزداد الأمور تعقيداٍ وتأزماٍ وما ذلك لقصور النخبة في استيعاب مفهوم التنمية المنشودة .
الحل من وجهة نظر د .المكاوي يكمن في بناء الإنسان العربي وتطوير كفاءاته واكتشاف الموارد الحقيقية للمجتمع سواء البشرية أو الطبيعية وتسخيرها في ما يعود على الوطن بالنفع في ضوء استراتيجية متكاملة ورؤية علمية مستقبلية لأن النهضة لا تعني زيادة الآلات ووفرة الإنتاج فقط بل تعني أن ينهض الإنسان الذي يعد وقود التنمية وغايتها في الوقت نفسه والركيزة الأساسية الفاعلة للنهضة .
اقتصاد قوي
ويقول د . حسين شحاتة أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر: إن الاقتصاد القوي لأي دولة يساعدها كثيراٍ على تحقيق النهضة ذلك لأنه يمكنها من حل مشكلات شعبها المعيشية من مأكل ومسكن وملبس وصحة وتعليم وغير ذلك إلا أنه كي يتحقق ذلك لا بد من وجود آلية قادرة على استثمار الموارد المتاحة بالصورة التي تحقق الإصلاح المالي الذي بدوره يحسن من أداء الاقتصاد ككل . . فالأموال العربية مبعثرة في البنوك الأجنبية ويتم استثمارها خارج نطاق أوطانها لمصلحة الآخرين ولو تم توجيهها إلى مشاريع داخل بلادها لفاضت على أبنائها بالخير وقلت نسبة البطالة والفقر .
ويرى د . شحاتة أنه يجب أن تعمل الحكومات العربية على إعادة الثقة بينها وبين المستثمرين وتشجيعهم على إيداع أموالهم في بنوك وطنية ولتكن سرية كتلك التي بسويسرا لأن رأس المال جبان يخشى المحاسبة أو حتى الحسد مع ترسيخ مفهوم المواطنة في نفوس الشعب . . كما على البنوك الاتجاه للمشاريع التي تحقق النهضة الاقتصادية خاصة الصناعية التي تخدم المواطنين وتضع اسم الدولة في مصاف الدول المصنعة والعمل على زيادة الإنتاج وجهود البناء والتعمير .
قيم داعمة للتقدم
ويوضح د .عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر أن الالتزام بالقيم والمبادئ الإسلامية السمحة هو أساس التقدم والدليل ما حققه آباؤنا الأوائل من نهضة حين كانوا يتمسكون بكتاب الله وتعاليم رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام . . فهناك عدة قيم لو حرص عليها المسلمون لعادوا لسابق عهدهم من النهضة مثل غرس مفهوم الحياة عند المسلم الصغير والدور الذي خلقه الله سبحانه وتعالى من أجله ألا وهو الخلافة في الأرض التي يملكها سبحانه فيعمرها عن طريق العبودية والحفاظ على ما تحتويه خيراتها من كنوز وموارد ويطور فيها بما يخدمها ولا يدمرها مع ترشيد الاستهلاك وزيادة الإنتاج .
كما أن من القيم الداعمة للتقدم الاتحاد والالتزام بقيمة الجماعة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ليس أحد يفارق الجماعة شبراٍ فيموت إلا مات ميتة جاهلية” . . فالانطواء تحت لواء الجماعة مع تكامل الجهود في ظل دستور إلهي يحقق الاستقرار والنظام والأمن للمجتمعات مما يساعد على التنمية والتطور .
ويلفت إلى أن الإسلام حث على طلب العلم الذي يراه طريقاٍ مباشراٍ للنهضة والتقدم إلا أنه يجب أن يراعى في هذه القضية الغاية منه بحيث يتلقى طالب العلم ما يحتاجه مجتمعه ليستفيد من علمه ويوجهه صوب التنمية .
ويؤكد د . إدريس أن المحافظة على الوقت وعدم هدره في ما لا يفيد من القيم التي يجب أن يتبعها المسلم حتى يحقق التنمية والنهضة لأن أوقات الفراغ طاقة ضائعة ولنا في اليابان مثال حيث يحرص شعبها على استثمار كل دقيقة في ما ينهض بالبلاد حتى تحقق لهم ما يرمون إليه . . ولا شك أن الاستفادة من الوقت في بذل الجهود الإنمائية وزيادة الإنتاج يحقق التنمية والتطور المنشود . . إلى جانب ترسيخ قيمة العمل في نفوس الأبناء وتقديسه واحترامه مهما صغر أو كبر . . ولقد ارتقى الإسلام بالعمل لدرجة العبادة واعتبر أن الإنسان ما خلق إلا ليعمل وينتج طالما كان قادراٍ على العمل حتى آخر عمره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها” وهو ما يشير إلى قيمة العمل الذي يعتبر معيار التفاضل بين الناس في الإسلام . ويشير إلى أن الشورى قيمة عظيمة يجب على المسلمين الحرص عليها لتحقيق التنمية فهي كفيلة بضمان مشاركة فاعلة للمواطنين في القضايا التنموية وهو ما يحقق تقدماٍ على جميع الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها .