سيظل الفن الإبداعي السردي في تطور مستمر وبشكل خلاق وملفت فلا يخفى أن القصة القصيرة جداٍ ظلت في حالة جدل نقدي أكثر من عقد من الزمان ما بين مؤيد ومعارض لها . لكنها استطاعت أن تفرض مكانتها على الساحة الإبداعية السردية فأصبحت من الأجناس الأدبية الملفتة والجذابة والتي تتناسب مع العصر لما تحفل به من خصائص فارقة كالإدهاش والمفارقة والتكثيف والرمزية والشعرية . وظهرت مؤخراٍ في مصر ” القصة الومضة ” وهي جنس سردي مدهش لا يتعدى الثمان كلمات ويأخذ معظم خصائص القصة القصيرة إلا أنها مأخوذة من التراث العربي النثري المتمثل بالتوقيعات والذي ظهر في العصرين الأموي والعباسي وهذه عبارة طرفين أحدهما موجب والآخر سالب ليؤدي الطرفان نوعاٍ من المباغتة والإدهاش والمفارقة , بنوع من الحكمة ابتكر هذا الجنس الأديب القاص المصري / مجدي شلبي والذي بذل جهوداٍ لا يستهان بها حتى ظهر هذا الجنس المبتكر للوجود وفي هذه القراءة نلقي نظرة على هذا الفن الراقي والذي يعتبر إضافة نوعية للأجناس الأدبية السردية وعلى الرغم من قلة كلمات هذا الجنس المبتكر إلا أنه لا يجيده إلا الكاتب المتمكن الذي لديه قدرات إبداعية ومخزون لغوي كبير ليستطيع أن يخلق لقطة ما وحالة مدهشة لم يأت بها إلا هو .
تعتبر الحكائية جزءاٍ لا يتجزأ من النص القصير جداٍ وخاصة من خاصية السرد لتشكل بنية قصصية وتشكل مشاهداٍ خاصة في السرد ولأن القصة الومضة فن قصصي جديد مختزل يعتمد على خصائص خاصة وهي متأثرة بالفن السردي عموماٍ ولها شروطها الخاصة وقد احتفظت بالحكائية كفن قصصي مميز والمبدع / لقمان محمد تمكن من هذا في إبداعه السردي في فن الومضة ففي نصوصه نستطيع أن نستخلص الحكائية من خلال النصوص التالية :
” طائفية ” تنازعوا حمل الراية º مزقتها سواعدهم ”
سيناريو ” أرادوا قتلنا º أعارونا مدافعهم ”
وقاحة ” سرقوا خبزنا º وتصدقوا علينا ”
كما سبق يمكن القول : إن الحكائية تظهر من خلال العنونة المختزلة للنص
” طائفية ” والتي تعني التمزق الاجتماعي – السياسي والاختلاف الفكري والفتن والاقتتال وأوضحت الحكائية الألفاظ التي ” تنازعوا ” والذي يعكس دلالة الاختلاف والاقتتال والبحث عن السلطة وجاءت الحكائية بتصوير مشهد الجماعة المختلفة المتصارعة ويأتي التوضيح للحكائية وللعنوان معاٍ ” مزقتها سواعدهم ” فتحول الضعف قوة والقوة ضعف والجماعة جماعات وجاءت النتيجة صادمة وهي الاختلاف وتآكل الذات من الذات وإذا ما انتقلت القراءة النص الثاني فالعنوان ” سيناريو ” والذي يدل على التخطيط والترتيب والغايات السياسية والتخلص من الخصم وجاءت رسم الحكائية في الألفاظ والتراكيب ” أرادوا ” فالإرادة فيها عزم وإصرار وإمعان في القتل والتخلص من الخصم لذلك كانت النتيجة استخدام الإعارة من الجماعة في الزمان والمكان وكل عناصر القص خاصة والإعارة لا تعني الامتلاك بل تعني إعادة المستعار لتأتي النتيجة في ذهن المتلقي وهي سيناريو التخلص لتعكس قضية عصرية وهي الاختلاف .
وفي النص الثالث ” وقاحة ” وهي تعني عدم الخجل والإمعان في الفعل المشين والزعم في عمل الخير . وتأتي الألفاظ الحكائية ” سرقوا خبزنا ” فكانت نتيجة التركيب ادعاء القوة وامتلاك القرار º تصدقوا علينا : وهذه حكائية تحمل قناعة نقل الحكمة واستخلاص العبرة من استخدام الذكاء وزعم الإنسانية ومن النصوص نلحظ الحكائية من خلال العنونة ” طائفية , سيناريو , وقاحة ” وكانت تراكيب وأسلوب الومضة من خلال رسم المشاهد باستخدام صيغة الجمع في ” تنازعوا , مزقتها , أرادوا , أعارونا , سرقوا خبزنا , تصدقوا ”
وإذا كان الرمز صورة حداثية وعلامة دلالية تكمن وراء الترميز كثير من الصور تزيد من الاختزال والتكثيف هذا النوع من السرد الجديد والمبتكر يتيح للمبدع أن يخفي وراء استخدام الرمز كثيراٍ من الحقائق ويرسم قضايا متعددة .
تشخيص ” أريقت الدماء º أصيبت الإنسانية بفقر الدم ”
أزداد ريشه º لم يستطيع الطيران
حكام ” سئلوا عن عدوهم º تبادلوا النظرات ”
وإذا تأمل القارئ النص الأول فإنه يكشف قضية عصرية وهي همجية العصر وبربرية الإنسان والحضارة اللاأخلاقية ” أريقت الدماء º أصيبت الإنسانية بفقر الدم ” من الملاحظ أن فقر الدم هو ترميز لفقر الإنسان لإنسانيته وأخلاقه , ومبادئه وقيمه فضلاٍ عن أن الإصابة بفقر الدم حول الإنسانية إلى قيمة مريضة بالقتل والاقتتال وتحتاج إلى علاج صعب في القيم والأخلاق فكان النص له دلالات لا يمكن حصرها لاسيما والعنوان ” إنسانية ” و تحولت مريضة في خلقتها وأخلاقها ففي النص تشنيع بالإنسان والعصر … ويأتي الريش في النص الثاني ” أزداد ” ريشه إلى الترميز للغرور واستخدم الريش كترميز للضعف في الوسيلة وضعف في الإنسان فضلاٍ أن النص لم يستخدم جناحيه لأن الجناحين فيها قوة ووسيلة للطيران حقيقية فكان الترميز بالريش مكثفاٍ زاد من دلالة الومضة وعمقها وأبعادها ليشكل النص الجديد أبعاداٍ متحركة جمعت بين الحكمة الخبيرة والسرد الجديد وأخذت من التراث العربي النثري التوقيعات وحداثية النص السردي مما يجعل هذا النوع من القص فناٍ متناسباٍ مع اللحظة العصرية وقضايا الزمن .
أما في نص ” سئلوا عن عدوهم , تبادلوا النظرات ”
فهذا النص عميق يصور الرمز من حيث رمزية الجملة وعمق أبعادها ففي الجزء الأول منها يدعي كل طرف من الأطراف البراءة ” سئلوا ” ففي السؤال نفسه قضية اختراق العدو للصفوف وأيضاٍ الخيانة التي طرأت في الأوطان علاوة على الانقسام والاختلاف الذي تعاني منه الأمة مما أفضى إلى استغلال الأعداء لذلك الاختلاف والترميز يأتي ” بتبادل النظرات ” التوجس أن يتهم كل طرف أنه العدو وتحول كل طرف هو العدو ” فنحن العدو ” قبل أي عدو من تبادل النظرات دلالة الاختراق للصفوف وبيع الأوطان بالاستسلام للعدو والقيام بمهمته .
والفعل المبني للمجهول يعكس أن الذي يسأل هو الضحية وهو الشعب فتبادل النظرات يعكس الخيانة .
فكان الرمز جملة يكتشف المتلقي من خلال التأمل بالنص واستيعاب أبعاد دلالالته فاختزل قضية أمة وعصر فيكتشف المتلقي أنها خارطة الزمن وصورة الزمن وقضاياه .
وإذا كان التكثيف سمة وخاصية للنص القصير ويتمثل بعدم الشرح والتوضيح ليعطي النص دلالات وآفاقاٍ تختلف باختلاف التلقي وجاءت نصوص / لقمان محمد كثيفة متعددة الدلالات ففي نصوص
” قوارير ” كسرها º جرحته “
قناع ” خلع القناع º سقط وجهه “
فقراء” نحلت الوسادة º ثقل الحلم ”
من خلال النصوص يلحظ الكثافة والاختزال وآفاق الدلالة ففي عنوان ” قوارير ” فالقوارير تلك الآنية الزجاجية الشفافة التي تتأثر بالتراب ويعلق عليها أقل الوسخ وانكسرت لا تسترجع بل تتحول إلى شظايا جارحة وهي رمز للمرأة ومن خلال النص يلحظ المتلقي أن الكاتب ألمح إلى ذلك تلميحاٍ في قوله ” كسرها ” ولم يتعرض للنساء لتكون المباغتة جرحته . وكانت الكثافة في العنوان قوارير وهذا لفظ واحد له دلالات لا تخصى وجاء الكاتب بفعلين ” كسرها º جرحته ” وهذه الاختزال أسلوب حداثي عميق يبتعد عن الإسهاب وتمكن الكاتب من الالتزام بمعايير الومضة والنص القصير , وإذا تأمل القارئ النص ” قناع ” فهذا يعكس الزيف والخديعة والتلفع باللاحقيقة باطناٍ وظاهراٍ ولم يعكس هذا التكثيف تهميشاٍ للنص وبدلالة بل جاء بنتيجة إظهار الحقيقة ” خلع القناع ” أي انكشفت الحقيقة لتأتي الدالة الأخير بالسقوط في المبادئ واللأخلاق في الحياة والممارسة .
أما النص ” فقراء ” وجاءت بالجمع لتعكس العوز المعيشي لذلك استخدم الكاتب ” نحلت الوسادة ” وهذه دلالة القدم ورمز فقر العيش فالوسادة الوثيرة الناعمة تعكس الترف وجاءت بكثير من الإيحاءات والتلميحات , مما أفضى إلى عظم الحلم وهناءة الحياة في قوله ” ثقل الحلم ” لتأتي النتيجة كثيفة وهي هناءة النوم والأحلام بعكس العيش المترف اللامستقر .