النهايات الحزينة في »أناس الظلام«

أدين لهذه المجموعة القصصية بالاعتذار. بعد أن قرأتها في بداية العام 2015.. ودونت ملاحظاتي أثناء القراءة بهدف الكتابة عنها. وحين غبت خارج اليمن لأكثر من خمسة أشهر.. حملتها معي ممنياٍ نفسي أن أجالسها وأحاورها لكنني لم أف .. وهذه أنا أرى تلك النصوص تعاتبني. وأعترف بأن تلك النصوص أدهشتني وظلت عالقة في ذاكرتي. وهذا أنا أعيد قراءة المجموعة الأولى للقاصة النشطة عفاف صلاح.. صاحبة الإلقاء المتميز.. والنشاط المتجدد في نادي القصة بذمار.. وأحد أهم الأصوات الشابة في كتابة القصة.
العنوان: يثير في القارئ التساؤل: منهم أناس الظلام¿ هل هم لصوص¿ أم أن الكاتبة ترمي بذلك العنوان إلى كائنات أخرى قد يكونوا بشر بطبائع وغرائز الشيطان. ولأن العنوان هو أهم عتبات النص فقد توفقت الكاتبة في اختياره.
الغلاف: ملامح لوجه إنسان غير واضحة.. عدى العينين بنظرات فزعة.. أصابع منقوصة تكمم الفم ..خلفية سوداء. ما يعبر وينسجم مع العنوان.
الاهداء: نص شعري مقفى.. وهنا المفارقة أن تكتب الإهداء شعرا ومقفى ولم تأت من جنس القصة نثر. والأروع أن ذلك لست الحبايب”الأم”.
تلك هي العتبات أما المجموع فقد ضمت ما يقارب الأربعين نصاٍ.. وزعتهن على ثلاثة عناوين فرعية.هي:
– أناس الظلام. قصة قصيرة.
– زخات. أقاصيد. أو قصة قصيرة جدا.
– قطرات . شذرات.
وقد ضم كل عنوان ثلاثة عشر نصا.
بداية بالقصة القصيرة ..إن ما يجمع تلك النصوص موضوعيا.. أو فالنقل معظمها.. إنها تتناول قضايا اجتماعية بل وقضايا الفتاة على ووجه الخصوص.. في مجتمع ذكوري بامتياز.. تختار القاصة تلك الأفكار لتغوص بالقارئ في أعماق مجتمع وليد آخذا بالتشكل.. بعد أن انتشرت دور التعليم ومؤسساته .
“حلم” نص يناقش التعليم.. ليصحبنا معه إلى أحلام فتاة .. وقد رأت نفسها داخل الحرم الجامعي ومجتمعه.. الكاتبة قدمت لنا في هذا النص نهاية فاجعة ومؤلمة .. فيحين ظلت الفتاة تحلق بأجنحة أحلامها تفاجأ بأن طلبها رْفض”عذرا أعتقد بأنك لم تكون مؤهلة نفسيا للالتحاق بالكلية” هذا ما جاء على لسان مدرس في لجنة القبول أثناء المقابلة. لتْقصف أحلامها.. وتوأد آمالها وتنسحب بخطى مرتبكة وقد تغير كل شيء حولها. هذا النص يجعلنا نتصور تلك الأحلام التي حملتها الفتاة وقد التحقت بالجامعة وما بها من قيم العلم والحرية والمساواة.. ثم أن تكون فتاة متعلمة يشار لها بالبنان خريجة جامعة.. ثم مميزة وسط أسرتها. كل ذلك سْفح من مدرس أو موظف كان يفترض فيه الإحساس بالمسؤولية .. والتحلي بقيم الخير والمساواة ليدفع بفتاة نحو أفق العلم والمعرفة.
“سر المقبرة” نص ذا نكهة بوليسية.. حلقت بنا الكاتبة بخيال مدهش في عوالم المقابر.. وعوالمها المبهمة.. وبسلاسة وحبكة رائعة نكتشف معها ذلك الجلاد .. المغتصب.. ما هو إلا ضحية لامرأة اغتصبته لتنقل مرض الإيدز إليه .. امرأة تجلد غيرها .. ليتحول الضحية جلاد. في هذا النص تبعث الروح الشريرة والنوازع ألا أخلاقية.. على اعتبار أن الفرد مركب من خير وشر.. وذلك الثنائي المتصارع فينا بشكل دائم.. ليظهرنا تارة كملائكة من خلال تصرفاتنا أو شياطين قتلة وسرق وكاذبون .نص مميز بأهدافه ومقاصده.
ثلاثة نصوص أخرى.هي “حافة الهاوية” و”أجساد مكبلة”و” اختبار” تبرز من خلالها الكاتبة أسلوب متميز في صناعة أزمات داخل نصوصها.. وعقد تجذب القارئ .. تستحدثها عفاف بمهارة ووعي ليظل القارئ يلهث متسائلا:ماذا بعد¿. وهنا يكمن سر روعة التشويق الذي يجذب القارئ.. إضافة إلى أنها تقدم لنا نصوصاٍ في صياغة مترابطة وسلسة.. فلا تجد إنقطاعات في سير الأحداث أو في تنامي مشاعر الشخصيات.. ولا ركاكة في الوصف أو سرد النص من أوله إلى آخره. وما أحببت أن أقدمه فيما ذكرت تلك الجوانب الفنية التي تجيدها صلاح. وذلك هو الأهم .. فنحن جميعا نتنافس ليس على تقديم الفكرة بل على كيف تقديمها للقارئ. وكيف نبتدع ونتعلم أساليب مغايرة عمن سبقونا وعن زملاء من نفس جيلنا. وإلا فما الفائدة من كتاباتنا إن لم نأت من جديد خاصة في الجوانب الفنية .
“أناس الظلام” و”الزفاف الأسود” نصان تعيش شخصياتهم بيننا.. فلا يمكن إلا أننا عرفنا “رهف” وكذلك بابلي.. وذلك المسخ الذي يستغل البراءة ورغبة الطفولة دون ذرة من أخلاق ودون إحساس.. ليتحول إلى مجرد حيوان عديم التفكير تسيره غرائزه.. كما تسير أي دابة على وجه الأرض. حين اختارت الكاتبة عنوان هذا النص ليكون عنوان مجموعتها.. توفقت بشكل كبير . فهو نص يقدم الكاتبة للقراء بأسلوبها المدهش.. وصياغتها السلسة.. وقدرتها على إيصال تلك الأحاسيس والمشاعر الصادمة والجارحة.. وأن تجعلنا نرى من حولنا كل طفلة تقف على رصيف الشارع متسولة رهف.. وكل بائس تسيره غرائزه ذئب عفن . وكما قصة أناس الظلام.. أيضا هي العروس في قصة “الزفاف الأسود” فنحن أبناء وطن ينخره فساد السلطة.. وانفلات الأمن وانتشار الأسلحة.. لا يمر يوم إلا ونرى تلك البنادق الآلية على أكتاف الرجال في الأسواق والطرقات. ودوما يعيش القاتل بطل بيننا.. ودوما نسمع بين أسبوع وآخر بأن فلان قتل فلان ثأرا لأبيه أو أخيه.. بل ولكثرة تلك الحوادث أضحت عادة متبعة أن نستعد لكي نكون قتلة .. لأن أجهزة السلطة ينخرها الفساد.. وأجهزة القضاء تسبح في بحيرة الرشوة.
منحى آخر يجب أن نتحدث حوله في قصص هذه المجموعة.. حيث يلفت انتباه القارئ تلك النهايات الحزينة لجل القصص القصيرة “تجمدت نظراتها بينما حروفه تنهال على مسامعها رصاصات قاتلة.. سقطت أرضا وتفرق دم حلمها” تلك آخر جملة من نص “حلم” ثم “كل هذه الهتافات تقتل كل هذه الزهور…!” وتلك كانت آخر جملة من نص”حافة الهاوية” و”فبقيت تصرخ وظلوا ينظرون” أيضا آخر جملة من نص”أجساد مكبلة” وكذلك جملة النهاية “ليتحول معها إلى ذئب مفترس وما هي إلا لحظات حتى شرع يبعثر طفولتها بقسوة” تلك الجملة الأخيرة من نص “أناس الظلام” وأيضا الجملة الخاتمة من نص”الزفاف الأسود” تقول “في صباح اليوم التالي..بدلا من أن يأتي الناس للتهنئة أصبح الزاما عليهم حمل جنازتي العروسين إلى مثواهم الأخير” كذلك نهاية نص “لعب الأقدار” جاء نصها”ربيع. نأسف للإزعاج..لكن والدتك تقول أن أبيك توفى” وهكذا هي نهايات “لحظة عابرة” .
وكذا نجد أن جل نهايات تلك النصوص يخيم عليها الحزن .. ولم تأت تلك النهايات دون وسط وبداية مؤثرة.. إذ أن القاصة تجيد حبك الصراع ونسج الأزمات.. ليجد القارئ نفسه محشورا بين ضحايا وجلادين.. أي أن الكاتبة تستخدم الثنائي الأزلي “الخير والشر” في صراع دائم.. لنجد أن الشر في أكثر القصص يسحق الخير. وإذا عدنا لواقع نعيشه سنجد أن تلك النصوص تترجم بصدق ما يدور فيا واقع نعيشه .. فهذه الأرواح في بلادنا وبلدان أخرى تزهق باسم الدين.. وهذه الجماعات المسلحة ترفع شعارات انتمائها لله لتعيث باسمه قتلا وتدميرا. ولم نكتف بل نجد أفراد المجتمع يستغلون بعض.. ويخدعون بعض.. وينهبون ويرتشون ويمارسون كل الموبقات.. ودوما القوي هو الجلاد.. والضعيف هو الضحية.
وإذا كانت تلك النصوص القصيرة قد جادت لنا بالكثير من الدهشة والتشويق.. وقدمت لنا قاصة تمتلك أدوات السرد .. وتكتب عن وعي حاملة هموم الفتاة في مجتمع أعور لا يرى إلا الرجل. ولا يعطي المرأة حقها من المساواة. فأن الكاتبة تقدم لنا نصوصا قصيرة جدا.. في نفس المجموعة.. وكما ذكرنا سابقا .. تضم المجموعة ثلاثة عشر نصا قصيراٍ.. وثلاثة عشر قصير جدا.. وثلاثة عشر نصا ينتمي إلى جنس جديد في عائلة السرد يسمى بالشذرة. وهي نصوص في خصائصها تقترب من القصة القصيرة جدا .. وتفترق عنها في التالي: الشذرة تتكون من جملة ولا يتجاوز السطر أو فالنقل العشر كلمات. وهنا نجد القاصة تكتب القصة القصيرة جدا وقد غيرت أدواتها مستخدمة التكثيف والإيجاز. ومن تلك النصوص: انتقام, خبرة, نسيان, واقع, مبادرة, وهم, رسالة, هي, خيبة امل, رائحة, أشواك, خيانة, مرآة. وأورد هنا نماذج من نصوصها القصيرة جدا ” لا شيء حدث إلا أنني حاولت أن أرتدي الهمسات لأبقى على كتفيك.. وأرسم في الأفق فصولي الأولى..وعندما أسقطتني نزلت على شكل خنجر لأخترق أحشاءك” ونص آخر”بخجل كبل أناملها قطفت الوردة.. بدأت بانتزاع الأشواك.. فكرت قليلا انتزعت الوردة.. وقدمت له الأشواك”
أما نصوص الشذرة فعناوينها: دائرة, شموخ, تقوقع, فشل, سنابل, حب, اعتصام, طمع.
ونورد هنا نماذج من نصوص المجموعة ” أغدق عليها ببذور الوعود.. فأكملت حياتها تربي سنابل الانتظار” ونص آخر “ألقى عليها قطرة حنان.. فأمتص رحيق أسرارها” ونص أخير” خرج محشوا برصاص الثأر فعادوا به جثة محمولة” وقد يلاحظ القارئ مقدار التكثيف والاختزال الذي مارسته القاصة على تلك النصوص.. لتخرج بنصوص في غاية الروعة.. قد يستسهل البعض كتابة الشذرة.. أو يكتبها الكثيرون لكن دوما تلك النصوص الشذرة لا يكتبها إلا الموهوب حقا.. ولا تجيدها إلى من تعي ما هي الشذرة.
هناك عدة محاور أتمنى ممن يتذوقون فن القصة.. تناولها في هذه المجموعة ومنها.. الحوار.. فالقاصة تدير حوار شخصياتها بشكل مرن وشيق.. وقد قدمت لنا ذلك في نص بعنوان”لعب الأقدار” كنموذج للقصة التي تستفيد من فن المسرح. وكذلك الوصف. نجد أكثر من نص تجلت فيه قدرة الكاتبة على وصف الشخصيات.. الأحداث.. وأفضل وصف جاء في نص”أناس الظلام” حيث استطاعت عفاف أن تجعل القارئ يشعر بشعور تلك الشخصيات وأن يتلبس معاناتها.
أكتفي.. وعذرا إن تركت نصوص القصة القصيرة جدا.. ونصوص الشذرة.. دون تعليق.. فتلك النصوص ناضجة.. تاركاٍ الأمر للقارئ.. ليتمتع بروعة ما خطته القاصة.
كان لدي حديث طويل حول هذه المجموعة المتميزة .. والتي تبشر بقاصة مجيدة.. لكن الحيز يخذلني دوما فكثيرا ما يرفض محررو الصفحات الثقافية المقالات الطويلة بعذر الحيز الضيق وكثر الكتاب.. وبذريعة إتاحة الفرصة لأكبر عدد من النصوص والمقالات.

قد يعجبك ايضا