حصار صنعاء من قبل عاصفة الحزم جعلني عالقا في القاهرة المدينة التي أحبها بعد أن حضرت معرض الكتاب. وذلك العلقان أتاح لي حضور فعاليات بعض المنتديات .. واللقاء بأصدقاء عادة ما التقي بهم في زياراتي بشكل خاطف .. ومنهم الأستاذ الفنان أسامة أمين ريان .
منذ عرفت الريان ترسخت لدي فكرة بأنه يكتب النقد ولا شيء غيره.. إلى أن استمعت إليه في ندوة الإثنين بمنتدى الزيتون يلقي نصا قصصيا لافتا.. أعجب به جمهور الحضور .. لأكتشف بأن صديقي متعدد المواهب..
بعدها أهداني في أحد لقاءاتنا باتيليه القاهرة خمسة نصوص قصصية..
هي:
• بجعات ابن حزم
• ظلال الزمن
• ليلة اليوم الأول
• دنجل
إضافة إلى مقال بعنوان “الصامت الذي ملأ حياتي ضجيجا ..” كتبها في رحيل والده الأديب والفنان الكبير.
وإذا استثنينا المقالة .. فإن القارئ سيجد أن الأربعة النصوص القصصية أنفة الذكر تتقارب من الناحية الموضوعية .. حين أختار لها الكاتب مواضيع اجتماعية.. بروح إنسانية شفيفة. متخيرا لإحداها بطولة يصنعها الفرد عن وعي دون التفكير في مصلحته الشخصية وهو من الطبقة شديد الفقر في نص “دنجل” إلى حياة الفقد التي عالجها في نص بعنوان “ليلة اليوم الأول” حيث يبرز الكاتب مدى تأثير الأحبة في محيطهم أثناء حياتهم وبعد رحيلهم.. وبقاء إثرهم في تكوين ثقافتنا الاجتماعية وقيمنا الخلاقة . إلى تلك الرغبة فينا والكامنة بدواخلنا والمتمثلة في الخلود. وما نبتكره من حيل لننتصر على الفناء .
في نص “بجعات ابن حزم” يقدم لنا الكاتب ذلك الجد وشغفه بحفيدته الصغيرة الذي هو شغف بالحياة.. ثم نجد شخصية موازية في هذا النص . جد آخر له ماضُ في التطرف وقد غيرته حفيدته التي حضر حفل كانت هي الأخرى مشاركة فيه مع زميلاتها الصغيرات.
والنص الرابع ” ظلال الزمن” قدم لنا فيها فكرة دوما مانعيشها كأولياء أمور .. والمتمثلة في الحرص الشديد على مستقبل أبنائنا .. خاصة حين تأتي أيام الاختبارات لنعلن الطوارئ ونعيش في أزمة متصلة حتى ينتهوا من تقديم ما عليهم.. مهيئين لهم الأجواء المناسبة .. مهتمين ومتابعين للحظات أيامهم حتى ينتهوا من الاختبارات لنتنفس الصعداء. ونتخلص من حمل شديد التأثير علة نفسياتنا وتعاملاتنا.
ولريان أسلوب يغريني كقارئ بالتوقف والتأمل عند نهاية بعض فقرات نصوصه ..وقد لاحظت ذلك الأسلوب في جميعها.. ويتركز ذلك في تقديم نصوصه من خلال مشهديات تشبه اللقطات السينمائية .. مكونا كل نص من مجموعة من المشاهد أو اللقطات . ففي نص “ليلة اليوم الأول” يبدأها بمشهد الأم التي تدير علاقتها مع زوجها وأبنائها بدراية محكمة .. حين تنسل من جوار زوجها وقد تقمصت دور المعلمة الموجهة والربة الراعية .. لتقف على كيفية استغلال الأولاد في استغلال أوقاتهم “جهزوا الكراسات والأقلام” هذا هو صوته يرتفع في مواقيت محددة قبل ظهورها عليهم .. هنا يصيغ لنا الكاتب مشاعر الزوج تجاه زوجته كربة راعية وهو يستحضر لحظات عمرهما بعد رحيلها.. مستذكرا تلك اللحظات وهي ترعاه وترعى أبنائها ثم أحفادها .. من تتابع تحصيلهم العلمي إلى رعايتهم يقول الزوج مستذكرا “تحكم الروب الأزرق حول وسطها.. يْسميه الأولاد لبس المذاكرة”
وهو يرصد تلك العلاقة في مناسبات مختلفة بين الرعية والربة حين يحاولون التعبير عن حبهم وتقديرهم لها وقد تعالت عن أي تقصير منهم تجاهها..أو نقص .. ليقدم الكاتب الأم برمزيتها السامية التي لا يهمها أن تأخذ بقد ما تتجلى بالعطاء الدائم .
لغة الفقد والحب والحنين تنثال من أسطر نص لم يتجاوز الصفحة الواحدة.. لكنه أستطاع أن يشركنا كقراء بتلك التفاصيل الحميمة بين الزوجين كأحبة .. حتى أوصلنا إلى الإحساس بالتمازج بين الراحلة وحبيبها.. بين ماهو قائم في أنحاء البيت وبين روحها.. بين الأبناء والأحفاد وبين وجودها الذي لم يفارق المكان يوما .
نص يجد القارئ فيه نفسه أسيرا لذكرياته دافئة .. فهاهي الأم الراعية نشعر بها كربة على عرش القلوب .. وهاهي أجواء الأسرة وكأنها لم تفارقهم يوما.
وهكذا هي لغة الكاتب في نص “بجعات ابن حزم ” وأسلوبه الشيق وهو يقدم لنا شخصية الجد الذي تورط ذات يوم في أعمال متطرفة وقد عاد إلى حضن الأسرة والمجتمع نادما باكيا .. الكاتب لا يؤول في تقديم بصمته .. حين يقدم هذا النص كعادته في مشاهد ولقطات متلاحقة . البداية بسؤال ضمن أسئلة على لسان الحفية الصغيرة .. ليجد القارئ نفسه محتارا أمام لغة البراءة في طرح أسئلة غاية في الخطور.. تلك الأسئلة التي قدمها لنا الكاتب وكأننا من نقدمها “صحيح ياجدو الملائكة طاروا به لفوق الجبل وفتحوا بطنه” ثم سؤال ثاني وبعد عدة أسطر” ده كمان من غير ولا نقطة دم” مواضيع مرت علينا وتقبلناها ليس كأساطير بل كواقع .. أسئلة تتوالد عنها أسئلة .. فإذا كان الله يريد بنبيه ذلك لما لم يخلقه كما يريد .. دون أن يلجأ لاحقا لإرسال ملائكة. الكاتب يطرح ما يقودنا إلى أسئلة وجودية غاية في الخطورة لنناقش تلك العلاقة بين الأسطورة وما ورد في الكثير من الحكايات الدينية .. وفي العلاقة بين الدين و ما يحدث اليوم .وعلاقة الدين بالخرافة.. وهل الدين تحول إلى عقبة كبرى يحول دون التطور والرقي¿
لم تكن تلك الأسئلة مقحمة على لسان الحفيدة.. بل جاء بها بلغة أقرب إلى لغة البراءة .. وكان غايته زلزلة المسلمات التي نتعاطى معها منذ وعينا الأول كحقائق لا تقبل الجدل .. وقد نعرض أنفسنا حسب ثقافتنا إلى تأنيب الضمير إذا ما تساءلنا أو الشعور بالمعصية حين نفكر بها مجرد التفكير .
أسلوب آخر قدم لنا الفكرة من خلال ما جاء على لسان ذلك الجد الآخر وهو يشكو معاناته من تعامل المجتمع له بعد توبته .. يحكي باكيا عما صنه .. وعن فقر تفكيره فيما سبق .. وعن رغبته القوية في أن يعيش كما يعيش الناس الأسوياء رغم الندب الكثيرة التي خلفها في حياته ” أربكني عندما حول هذا اللقاء إلى جلسة اعتراف أخضلت خلالها لحيته بالدموع ”
إذا هو أسلوب صياغة النص الواحد في مشهديات ولقطات متعاقبة ضمن سياق صياغي وموضوعي واحد هو ما أعطى الكاتب نوعاٍ من التميز في أسلوب قد يحسب له .. وهو ما تجلى في هذا النص “بجعات ابن حزم” الأندلسي وما يحمل هذا الاسم من رمزية ودلالات تنويرية. وعلاقة الجدين بذلك الكتاب وكأن الكاتب يؤكد لنا أن الحقيقة تمتلك أكثر من وجه.
ومع قراءتنا نص “ظلال الزمن” سنجد السطور الأولى تقدم لنا هي الأخرى تفصيل نابضا بالحركة والصخب والزحام .. حيث يشعر القارئ وقد أنتقل من قيلولته وهو يقرأ ذلك النص إلى عشوائية أسواقنا وشوارعنا .. وإلى زحام المدن وأسواقها الشعبية .وإلى “العتبة” أو “الموسكي” وسوق الكتب المستعملة في الأزبكية .
هو بالفعل نص عميق ينقلنا من لقطة إلى آخري.. لهفة الأم وقلقها على ابنها .. انشغال الابن في سحر القراءة سابحا نحو أفكار عباقرة خلفوا كتبا ونظريات واختراعات .. مازجا ذلك العشق للقراءة بأهمية المسؤولية تجاه ما على الفرد القيام”الامتحان” والتركيز على ما عليه هضمه حتى يتجاوز سنته الدراسية .
نص يناقش ما نفكر به وما نمر من صراع ذاتي بين الأفضل والمفضل .. بين ما هو واجب وما هو ملح .. متخذا من قراءة الرواية تجاوزا لما عليه إنجازه .. والسهر للمذاكرة في الليالي التي تسبق أيام الاختبارات موضوعا رمزيا .. يشحذ همم الفكر والتأمل.
النص الرابع والأخير”دنجل” و أجزم بأنه نص مؤثر أكثر .. إذ أن كل نص له تميزه الموضوعي .. إلا أن دنجل قد جعله الكاتب في بداية نصه شخصية مبهمة .. واضعا أيها كأحد شخصيات نصه.. ليكتشف القارئ في منتصف النص أن دنجل حمار.. وهنا تبرز تلك العلاقة بين الإنسان والحيوان .. علاقة تتداخل المشاعر وكأنهما إخوة .. بل إن الكاتب جعل من دنجل كائناٍ يفهم ويشعر بصاحبه عبده.. أو أن الكاتب قرب المسافة بين عبده العربجي وبين حماره ليتماهى الإنسان بذات الحيوان .. مستعرضا بمهارة عالية كوامن قوة وقدرة الفرد رغم ضغوط الواقع المعاش.. ليقدمه لنا بطلا .. لما يحمل في أعماقه من روح جميلة ومبادرته العفوية لفعل الخير. حين يرى عبده أن ماقام به تجاه جريمة إشعال النار في المجمع عمل طبيعي وعادي .. في الوقت الذي يستعرض البعض بطولاتهم الزائفة بتضخيم أفعالهم ووضعها في مسار الإيثار والتضحية.
في هذا النص قدم لنا الكاتب مشاهد النص أكثر فنية ..متنقلا بنا من لقطة إلى أخرى بداية بوصفه لعربة الكاروا ذات الحوض الخشبي .. والذي يعلوا صوت عبده “ببكيـــا” يجره دنجل في ذلك الشارع المغسول بمياه البلدية المار وسط عمائر ذات طراز قديم وفخم. وكأنه يصف لنا شوارع وسط البلد الجميلة.
المشهد التالي وصف حالة الشوارع أثناء الانفلات الأمني وهيمنة العصابات.. حينها لم يعد يفرق المواطن بين رجال الأمن والبلطجية .
وكما ذكرت سابقا لا يعرف القارئ من دنجل حتى منتصف النص ” فيدق دنجل الأرض بحافره …” هنا تتضح الرؤية.. مع أن القارئ قد وصل إلى عدة استنتاجات في بداية النص. إلى الكاتب أنار بهذه الجملة المشهد .. ليدفع بالقارئ إلى إعادة القراءة مستذكراٍ ما سبق .
وهذا النص يسلط الضوء على جريمة إحراق المجمع العلمي في القاهرة بما احتواه من ذخائر ونفائس لا تعوض.. كما طرح الكاتب الكثير من الأسئلة حول الهدف من إحراق المجمع ومن يقف وراء ذلك ومن المستفيد.
” العيال بيدخنوا سجاير هناك.. دنجل ما بيحبش المعسل” جاء ذلك على لسان عبده مشيرا إلى مساحة مهملة يستغلها الشباب لممارسة الممنوع .. فهل يعني ذلك بأن من قام بإحراق المجمع مجرد مدمنين دون وعي.. أم أن جهات غير معروفة استغلت حالتهم لتغريمهم بفعل ذلك الجرم الشنيع.
“أنت بطل ياعبده.. زي كل المصريين الحقيقيين!”
لكن عبده لم يرى في ما قام به بطوله .. فقال مداريا خجله ” طيب ممكن ترسم لي صورة زي ضيوفك”
حينها أختتم الكاتب ” لا.. الأستاذ ها يرسم دنجل أول”
مفارقة غير متوقعه.. أن يكون لدنجل مكانة كما هو في مكانته من قلب صاحبه عبده .
في تلك النصوص الممتعة .. أجاد الكاتب تقديم أفكارها في صياغة بها من الابتكار والجدة .. وكذلك تلك النهايات الدافعة للإدهاش.