في كتابه الصادر عن عالم المعرفة بعنوان “الثقافة في عصر العوالم الثلاثة” يسلط الكاتب مايكل دينينغ الضوء على التحول الذي طرأ على الثقافة التي قفزت بمجرد اندلاع الحرب الباردة من الظلال العميقة التي حاول الماركسيون دفنها فيها منذ القرن التاسع عشر باعتبارها من البني التحتية إلى نقطة المركز في دائرة الصراعات السياسية والفكرية ومع زيادة الاهتمام بالثقافة عرف الناس عنها حقائق ربما لم يكن يعرفها إلا القليلون ومنها أن الثقافة تخضع لقواعد الإنتاج الكبير شأنها شأن الاستثمارات الكبيرة ما يعني أن الجماهير لها ثقافتها بقدر ما أن الثقافة لها جماهيرها فالثقافة في كل مكان ولم تعد حكرا على قلة تميزت بالتأديب والتهذيب.
ويعد هذا التحول من أهم ملامح “نصف القرن القصير” من 1945م إلى 1989م عندما كان العالم منقسما إلى عوالم ثلاثة: رأسمالي أول وشيوعي ثان وعالم ثالث خارج من بين أنقاض النظام الكولونيالي.
ويسعى المؤلف مايكل دينينغ عبر محاولته إعادة صوغ موروثات الدراسات الأدبية البريطانية والتقاليد الراديكالية لحركة الدراسات الأمريكية في سياق عولمي إلى استكناه حقيقة ما دار في المعارك التي أشعلها الخلاف حول دلالات الثقافة ويعالج نشوء “أيديولوجية أمريكية” مائزة ويتتبع مسارات الثقافات العولمية الطالعة من وراء أطلال عوالم ثلاثة تداعت لتخلي مكانا لعالم واحد.
ويقول مترجم الكتاب أسامة الغزولي أن وراء هذا الكتاب مسيرة طويلة أخذت مؤلفه المولود في العام 1954م من الانضواء تحت لواء اليسار الجديد وهو في الرابعة عشرة من عمره إلى العمل التطوعي في صفوف الحركة الديمقراطية الاجتماعية في إطار “اللجنة التنظيمية للاشتراكيين الديمقراطيين.. ولابد للقارئ وهو يطالع أعمال مايكل دينينغ أن يتذكر أجواء الكآبة والغموض والغدر والخيانة التي خيمت على العالم منذ ظهرت الفاشية في المانيا وايطاليا ضمن نتائج الأزمة الاقتصادية العالمية المعروفة باسم الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الفائت والحرب العالمية التي فجرتها ولم تنجل هذه الغمامة إلا بسقوط المنظومة السوفيتية بعد سقوط الفاشية بنصف قرن.
في هذا الكتاب يواصل المؤلف رصد الثقافة الأمريكية من حيث تركها كتابه والذي ألفه في وقت سابق “الجبهة الثقافية: نضالات الثقافة الأمريكية في القرن العشرين” لكن الموضوع يفرض عليه تجاوز النطاق الأمريكي ليطل على الثقافة العالمية وليشير ولو إشارات خاطفة إلى مبدعين عرب مثل الروائي نجيب محفوظ والمخرج السينمائي يوسف شاهين.. وفي أشارت أوردها “دينينغ” في نهاية الكتاب أن هذا العمل هو توليف يضم مجموعة من الأوراق البحثية التي وضعت لمناسبات أكاديمية مختلفة.
في الجزء الأول من الكتاب يعرض المؤلف لخروج الثقافة في مختلف بلدان العالم من السرديات الوطنية إلى السرديات الكونية خصوصا “سرديات العوالم الثلاثة” وهنا يظهر تركيز المؤلف على العالم الأكاديمي ليعالج ظهور الدراسات الثقافية التي كانت مهمتها المعلنة هي معالجة النقص الناشئ عن إهمال الثقافة في كثير من التحليلات خصوصيات نظريات التبعية.
وفي الجزء الثاني يعود دينينغ إلى العمل وعلاقته بالثقافة وخصوصا بالدراسات الثقافية ويرسم الحدود لدور الدراسات الثقافية في ظهور الصناعات الثقافية ويبين كيف أن الدراسات الثقافية ناهضت وجهتي النظر المهمشتين للثقافة: تلك التي سعت إلى تكريسها كتعبير عن ذائقة جمالية نخبوية يتعين ألا تتلوث بتأثيرات من الكتب الجماهيرية وتلك التي يرصدها الأنثروبولوجيون كممارسات اجتماعية خارج دوائر التلوث الرأسمالي.
ويعرب دينينغ في هذا الجزء عن خيبة أمله في انجراف الدراسات الثقافية وراء فوكو إلى منطقة تكون الثقافة فيها منظومة سيطرة كلية تساعد الدولة على السيطرة والرصد و”الضبط والعقاب”.
وفي الجزء الثالث والأخير من الكتاب يعالج المؤلف الدراسات الأمريكية من منظور نقدي وعمالي وهو يقف هنا على أرض صلبة لأن الدراسات الأمريكية هي مجال تخصصه الأكاديمي فهو أستاذ الدراسات الأمريكية بجامعة ييل وهنا يعالج مايكل دينينغ التأثير البيوريتاني في الثقافة الأمريكية والرواية العاطفية وخرافة المناطق الحدودية والثقافة الاستهلاكية باعتبارها الموضوعات الرئيسية الأربعة في الدراسات الأمريكية وتصل بنا المعالجة إلى قضية الاستثنائية الأمريكية فيمضي بنا المؤلف إلى قراءة نقدية (مدهشة في بعض نتائجها وممتعة في عمومها) لكتاب “الديمقراطية في أمريكا” الذي كتبه القانوني الفرنسي آليكسيس دي توكفيل والذي يمكن اعتباره “انجيل” الاستثنائية الأمريكية وليس غريبا بالتالي أن يقول لنا دينينغ ويوافقه كثر أن تأثير كتاب توكفيل تجاوز الدراسات الأمريكية إلى مجمل الثقافة في الولايات المتحدة.