منذْ الصغر وأنا أقراْ وأسمعْ عن مدينة وميناء المخا التاريخي والاقتصادي وما كان لهما من دورُ حيوي في القرون السابقة حين كان ميناء المخا أهم وأشهر موانئ اليمن على الإطلاق,بدليل ما ذكرِهْ الرحالة الأوربيون عن هذا الميناء وما سطرِهْ المؤرخون ودونوهْ في كْتبهم من شذرات تاريخية هامة توضح كم كان لهذا الميناء وهذه المدينة من أهمية وكم لِعبِتú من أدوارُ في تاريخ واقتصاد اليمن القديم.
وهذا كان الدافع الأكبر الذي جعلني أيممْ وجهي شطر مدينة وميناء المخا,خاصة وأن شهرتها الاقتصادية كانت إلى وقتُ قريب في ثمانينات القرن العشرين المنصرم تملأْ الآفاق ولا يكاد يوجد شخصَ في اليمن لم يسمع بأهمية ميناء المخا الذي كان يتقاطر عليه التجار من كل حدبُ وصوب.
حين عزمتْ على السفر باتجاه مدينة المخا من مدينة الحديدة عروس البحر الأحمر كانت الذكريات التاريخية تجسدْ لي مدينةٍ وميناء ضخمين أرى فيهما حركة العمل وزحمة الاستيراد والتصدير على مدار الساعة..وفوق هذا وذاك كنتْ أتخيل أني سأصل إلى مدينة وميناء لايقل جمالاٍ عن مينائي ومدينتي عدن والحديدة,خاصةٍ وأن المخا بمينائها كانت من المْدن الموغلة في التاريخ ولها باعَ طويلَ في مجال التجارة العالمية,بدليل ما ذكرِهْ عنها الرحالة الأوربيون وما وردِ في كْتْبهم من امتداحُ لقهوة البن المخاوي أو بْن المخا الذي كان أشهر بْنُ في العالم,واشتهر في بلاد أوربا بـ(بْن موكا) وكان مصدرْهْ ميناء المخا.. وهذا ما دفعِ العديد من البلدان الأوربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين إلى غزو هذا الميناء ومحاولة السيطرة عليه,وعلى رأس أولئك البرتغاليون الذين أحكموا سيطرتهم في فترة من الفترات على ميناء المخا ومعظم السواحل الغربية لليمن.
قبل حوالي خمس عشرة سنة كنتْ قد قرأتْ عن تاريخ مدينة المخا وأهميتها في كتاب (من كوبنهاجن إلى صنعاء) الذي ترجمِه الأستاذ محمد أحمد الرعدي في طبعته الأولى الصادرة عن مركز الدراسات والبحوث اليمني قبل أنú يتفضل الأستاذ خالد الرويشان بإعادة طباعته حينما كان رئيساٍ للهيئة العامة للكتاب.. وهذا الكتاب يشرح قصة الرحالة الدنماركيين الذين مثلوا أول بعثة أوروبية إلى بلاد العربية السعيدة(اليمن) والتي عْرفِتú فيما بعد برحلة نيبورºوكان هو الشخص الوحيد الذي نجا من الموت من أفراد تلك الرحلة وشاء له القدر ذلك ليعود ويسرد ما كان وما رآهْ في رحلته إلى بلاد العربية السعيدة ليكون ما دونِهْ شاهداٍ مهماٍ فيما بعد على حقبة هامة من تاريخ اليمن السعيد..
لقد كان من حظ هذه المدينة أنú ووريِ فيها جثمان أحد أولئك الرحالة وهو البروفسور فون هافن المتخصص في اللغات وذلك في بعد ظهر يوم السادس والعشرين من مايو آيار عام 1763م في المقبرة الأوربية في المخا التي كانت تبعد قليلاٍ عن المدينة حسب ما ذكرِهْ نيبور في مذكراته.
حين وصلتْ المخا لم أجد مما قرأتْهْ في كتب التاريخ وما سمعته منذ الصغر شيئاٍ, لقد كان كل ما فيها يوحي بأن المدينة الحالية قد انسلخت عن القديمة تماماٍ,ولكن للأسف ليس نحو الأفضلºفكل ما فيها يحن لماضُ لم يعد منه سوى أطلالُ تثير الشجن وتبعثْ في النفس ألف سؤالُ وسؤال..لماذا لم تعد المخا كما كانت مهوى الأنفْس وملتقى التجارة العالمية وقبلة التجار من كل أقطار الأرض¿ وكيف تتطور المْدْن نحو الأفضل إلا مدينة المخا¿¿
أسئلة وهواجس دارتú في خِلِدي وأنا أْشاهدْ بقايا أطلالُ لمدينة وميناءُ كانا في يومُ من الأيام ملئ السمع والبصر,واليوم أضحيا يباباٍ وخرائبِ ينعق في جنباتها البوم والغربان,وبالذات الفنار الذي ظل لفترة طويلة يهدي السفن ويهتدي به الكثير من البحارة.
والأمر كذلك هو بالنسبة لمعظم العمارات القديمة التي كانت من الأهمية بمكان في عهودُ سابقة,وبالذات جامع الشاذلي.أما ما أعجبني فقد كان رص بعض الشوارع في المدينة القديمة بالأحجار التي يسمى ((صلل)) الأمر الذي عكس صورة جميلة عن هذه البنايات والحارات التاريخيةºفضلاٍ عن الإيحاء باهتمام الدولة بالمخا ولكنهْ اهتمامَ لايزال دون المستوى المطلوب بكثير.
في الساحل وعند الميناء كان أول ما لفتِ انتباهي هو كثرة الرمال التي تحملها الرياح نحو المدينة وتكاد تعمي الأنظار ولا يستطيع المرء أنú يتملى بحْسن شواطئ المخا بسبب تلك الرياح المحملة بحبيبات الرمال التي تحملها الرياح والزوابع الترابية الشديدة والقاسية التي جعلت مدينة المخا وأهلها تحت رحمة الوضع المناخي المتقلب على موسمه الذي اعتاد عليه الناس والمدينة في كل موسم من مواسم الرياح السنوية.ما يجعلها اليوم أحوج لحزام التشجير والى كثير من المبادرات الشعبية لإعادة الاهتمام بزراعة النخيل في المنطقة لما لها من فائدة كبيرة في إيقاف الزحف الرملي على المدينة وكذا مقاومة مثل هذه الزوابع الترابية ,إلا أن تلك المبادرات يبدو أنها غائبة في مدينة المخا,حيثْ أهملها سكانْها دون مبالاة بمواسم الرياح مع معرفتهم بهذه المواسم من جيل إلى آخر.
ورغم ما مرتú به مدينة المخا وما نالها من تقلْبات الزمن وصروف الأيام إلا أنها لاتزال تحافظ على بعض رونقها من خلال الشارع العام الذي تم تشجيره كما أسلفنا في الستينيات,ومن خلال الساحل الجميل الذي يعكس بروعته على مدينة المخا جمالاٍ نادراٍ وبريقاٍ يجعلها تزري بأجمل مدن العالم,فقط لو تم الاهتمام بها كما يجب, وتوفرتú لها إرادة قوية ونية صادقة,فهي إلى الآن مازالتú تعيش على أمجادها السابقة حين كانت أهم ميناء في الجزيرة العربية في القرن السابع عشر الميلادي حين عرفها العالم من خلال تصديرها لأجود أنواع البن اليمني. وفي هذا الصدد يقول المؤرخ عبدالواسع الواسعي الذي عاش زمن الإمام يحيى حميدالدين وعاصرِهْ وأرخِ لفترته وزمنه: باسم المخا سمى الإفرنجْ أفخرِ البْن عندهم الذي عرف باسم «موكا كوفي» التي تعني بن المخا إضافة إلى تصدير عدد من السلع اليمنية إلى الخارج كالصبر والبخور وأعواد الأراك.
سواحل المخا لا تزال جميلةٍ رغم الإهمال الذي تعاني منه,وذلك بسبب موقعها وجغرافيتها النادرة التي حباها الله بها,فضلاٍ عن أنها جميلةَ أيضاٍ بطيب أهلها ووداعتهم وميúلهم للسلم والبساطة التي قِلِ أنú تجدها في موطنُ آخر على امتداد الخارطة اليمنية إلا في بقية المناطق التهامية التي لا تزال ترزح في غياهب النسيان رغم ما تحويه من كنوزُ طبيعية وأرضُ خصبة بإمكانها أنú تغطي احتياجات اليمن من الحبوب لعقود من الزمن خلال موسمين أو ثلاثة لو تم استزراعها بشكلُ سليم.
بعد تجوالُ طويلُ في سوق المخا والحي القديم وجامع الشاذلي والفنار الذي سنتطرق لهم في استطلاع آخر إن شاء الله ودعنا مدينة المخا باتجاه باب المندب بعد أنú تركت فينا انطباعاٍ لا يْنسى وذكريات ستظل حيةٍ على مدار السنين,فقط لأنها المخا التي تودع زائريها بمحبةُ مفعمة كما تستقبلهم بكل ترحاب.