الانفصال القسري والوحدة الزائفة سياسات الهوية تحت وصاية الأجندات الخارجية

د.سامي عطا

 

ما الذي يحدث عندما تتحول ” الوحدة ” إلى قفص ذهبي، و” الانفصال ” إلى حريق مُعد سلفًا في غابة جافة؟ المسألة ليست مجرد تفضيل بين خيارين سياسيين متكافئين، بل هي معادلة معقدة حيث تكون السيادة الحقيقية والإرادة الشعبية الحرة هي المتغير الحاسم، وغالبًا ما تكون هي الغائب الأكبر.

فالانفصال، بوصفه ممارسة سياسية، ليس شرًا مطلقًا. التاريخ يشهد على حالات حيث كان انفصالًا تحرريًا، نتاج إرادة جماعية مطلبها التحرر من ظلم مركزي. انظر إلى انفصال بنغلاديش عن باكستان عام 1971، بعد عقود من التهميش السياسي والثقافي والاقتصادي في ظل حكم غرب باكستان. لقد كان ردة فعل على ” وحدة ” قسرية بلا عدالة، تحولت إلى شكل من أشكال الاستعمار الداخلي. ولكن، ماذا عن الانفصال الذي لا ينبع من أحشاء المجتمع، بل يُزرع زرعًا؟ هنا تتحول العملية إلى ” هندسة جيوسياسية ” تخدم مصالح قوى كبرى. أدواتها هي نخب محلية طامحة للسلطة، أو مجموعات عرقية/طائفية يتم تأجيج هويتها لتصبح قنبلة موقوتة. المثال الأليم هو مخطط ” دول البلقان ” بعد تفكك يوغوسلافيا، حيث تم تفكيك النسيج الاجتماعي المعقد عبر حروب أهلية دموية ( 1991 – 2001م )، بتدخل وتشجيع واضح من قوى خارجية سعت لإضعاف نفوذ صربيا وإعادة ترسيم الخريطة وفق حساباتها. الانفصال هنا لم يكن قرارًا شعبيًا ناضجًا، بل كان نتيجة ” فوضى خلاّقة ” مُدارة، تاركة وراءها تراثًا من الكراهية والاقتصادات المنهكة.

وعلى الطرف النقيض، تقف ” الوحدة ” كشعار جذاب، لكنه قد يخفي تحت رداء المجد زيفًا مريرًا. فما قيمة اتحاد جسدي بين أطراف، إذا كان العقل والقلب والقرار مرتهنين لقوة خارجية ؟ هذه هي ” وحدة الوصاية “، حيث يُحكم الشكل الجغرافي الموحد بنظام سياسي تابع، يعمل كوسيط أو وكيل لمصالح إمبريالية والأنكى أن يكون نظام تابع لتابع (نظام علي صالح المنتهي). لقد رأينا هذا النموذج في العديد من ” الدول الموحدة ” خلال الحرب الباردة، حيث كانت الحكومات دمى تُحرك من موسكو أو واشنطن، مهمتها الأساسية الحفاظ على تماسك حدودي يخدم الاستقرار الإقليمي للقوى العظمى، بينما تُنهب الثروات وتُقمع الحريات. بعض الأنظمة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، رغم شعارات الوحدة القومية العظيمة، كانت تعيد إنتاج التبعية بشكل جديد، فكانت ” الوحدة ” مجرد غطاء لتحالفات أمنية واقتصادية مع القوى الخارجية، تُفرغ الدولة من سيادتها الحقيقية وتجعل قرارها الوطني رهينًا بإشارة من الخارج.

الاستدلال المنطقي هنا يفضي إلى نتيجة حتمية سواء كان المصير انفصالًا مفروضاً أو وحدة مُذلّة، فإن الثمن يدفعه دائمًا الإنسان العادي. ففي الحالة الأولى، يتحول المواطن إلى وقود لحرب هويات، تُقطع أواصره المجتمعية وتهجّره من أرضه، وتسلبه الأمان في سبيل مشروع سياسي لم يختره. أما في الحالة الثانية، فيعيش في دولة ” زومبي ” – جثة موحدة تتحرك بإرادة غير إرادتها – حيث تُسحق كرامته، ويُسرق رزقه، ويُحرم من حقه في تقرير مصيره، كل ذلك تحت ستار الحفاظ على ” التماسك الوطني “. كلا المسارين يولّدان شقاء عميقًا وبؤسًا مستدامًا، الأول بشقاء العنف والتفكك، والثاني بشقاء القمع والذل والتبعية.

خلاصة القول إذن، ليست في تبني ” الوحدة ” أو ” الانفصال ” كعقيدة ثابتة، بل في تفكيك شروط صناعة القرار نفسه. المعيار الأخلاقي والسياسي الحاسم هو مصدر الإرادة وطبيعة النظام الحاكم. أي خيار، بغض النظر عن اسمه، إذا نبع من إرادة شعبية حرة ونقية، عبر آليات ديمقراطية شفافة، وسيادة وطنية غير منقوصة، فهو خيار شرعي حتى لو كان صعبًا. وأي خيار، حتى لو كان تحت أبهى الشعارات، إذا فُرض بقوة الدبابات الخارجية أو خداع الدعاية الإمبريالية أو فساد النخب العميلة، فهو مشروع بائس محكوم عليه بإنتاج المأساة. السؤال الحقيقي ليس ” هل نريد وحدة أم انفصال؟ “، بل هو ” هل نملك، كشعب، حرية وحق تقرير أي منهما نختار، وكيف نُدير حياتنا بعده ؟ “. إنها معركة السيادة التي تسبق أي نقاش حول النظام السياسي أو الشكل الجغرافي.

 

قد يعجبك ايضا