تمر ذكرى ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة، لا كمجرد مناسبة وطنية عابرة نستعيد فيها صفحات من تاريخ الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، بل كحالة وجودية حيّة تستنهض الذاكرة الوطنية في زمنٍ تتنازع فيه الإرادات وتُختبر فيه الهويات.
فهذه الثورة التي فجّرها الأحرار عام 1963 لم تكن انفجارًا لحظةً من الغضب فحسب، بل كانت ثمرة وعي جمعي وإرادة تحررية توحدت فيها الإرادة الوطنية اليمنية متجاوزة الحدود الشطريه تحت راية واحدة ، هدفها إنهاء الاستعمار وبناء وطنٍ مستقل .
لقد كانت ثورة الرابع عشر من أكتوبر مدرسة في الإيمان والوطنية، ومعاني التضحية والإصرار والحرية.
فالشعب اليمني قدّم آلاف الشهداء في سبيل الله والحرية والاستقلال، مؤكدًا أن الاستقلال لا يُمنح بل يُنتزع، وأن الكرامة لا تُشترى بل تُصان بالدماء والعزيمة وهذا بحد ذاته من الإيمان والحكمة اليمانية.
كانت الثورة الرابع عشر من أكتوبر – في جوهرها – فعل إرادة نابعًا من داخل شعب الإيمان والحكمة، لم يستند إلى وصاية خارجية ولا إلى دعم من قوى أجنبية، بل إلى إيمان صادق بأن الحرية حق أصيل للشعوب، وأن الوطن لن ينهض إلا بإرادة أبنائه ووحدة صفهم وهذا تجسيد عملي تطبيقي للإيمان والحكمة.
غير أن قراءة الماضي المجيد لا تكتمل دون مواجهة الحاضر بكل ما فيه من تعقيد ومرارة .
فهل بقي من يحمل هذا الروحية من أحفاد الثوار ليجسدها في مواجهة تحديات الحاضر.
فاليوم يقف الجنوب اليمني أمام واقعٍ مختلف، واقعٍ مرتهن بتقاطعات إقليمية ودولية جعلت من قضيته ساحةً لتصفية الحسابات، ومن قراره الوطني رهينة لأطراف خارجية.
تحوّل اليمني من أرضٍ موحدة التحرر إلى ساحة صراعٍ بالوكالة، تتنازعها مشاريع متناقضة تتكئ على تحالفات ظرفية ومصالح آنية. وتبدو الخريطة السياسية والعسكرية فيه شديدة التداخل والانقسام، حتى غدت قضية جنوب اليمن نفسها تتآكل تحت وطأة التشتت والارتهان.
تعمّق الأزمة لا يقتصر على السياسة وحدها، بل يمتد إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية في المحافظات الجنوبية والشرقية لليمن الخاضعه للتدخل الخارجي . فمعاناة الناس اليومية، من انقطاع الخدمات وتدهور المعيشة وغياب الأمن، باتت تمثل الوجه الأكثر قسوة للواقع المرتهن. المواطن ، الذي قدّم التضحيات الكبرى بالأمس، يجد نفسه اليوم أسيرًا لحالة من الإحباط والخذلان، يعيش في وطنٍ يفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة، في حين تتقاذف القوى المتصارعة شعارات التحرير والسيادة دون أن تترجمها إلى واقع ملموس. وهنا تكمن المفارقة الموجعة: الجنوب اليمني الذي تحرر من الاستعمار العسكري بالأمس، يبدو اليوم مكبلًا بأشكال جديدة من التبعية والهيمنة.
ومع كل ذلك، لا تزال روح ثورة أكتوبر قادرة على أن تكون منطلقًا لبناء مستقبل أفضل، لاخوتنا في الجنوب اليمني شرط أن تُستعاد مضامينها الحقيقية التي رسمها آباؤنا بدمائهم الزكية والطاهرة من كل دنس الخيانة والارتهان لأي قوى محلية أو خارجية.
إن دروس تلك الثورة واضحة وجلية: وابرزها الوحدة التي هي أساس القوة، والتضحية التي شرط الكرامة، والحرية الاستقلال لا يتحقق إلا بإرادة حرة تنبع من الذات الإيمانية والوطنية لا من الخارج.
ومن هنا، فإن الخطوة الأولى نحو مستقبلٍ أفضل تتمثل في إعادة بناء المشروع الوطني اليمني الجامع، الذي ينبغي أن يكون مرسوم في ذاكرة كل وطني غيور على شعبه ووطنه.
وأن يتم تجاوز الحسابات الفئوية والمناطقية، ويرتكز على حوار داخلي شامل بين كل مكونات اليمنية، من أجل صياغة رؤية واضحة لمستقبل يمن الإيمان والحكمة، تحدد طبيعته السياسية الوفاء لتضحية الآباء بإيمان وحكمة كما جسدوها هم.
كما أن استعادة القرار المستقل تظل الركيزة الأهم لأي مشروع تحرري حقيقي. فاليمن لا يمكن أن يحقق كرامته ما دام قراره السياسي والعسكري مرهونًا بإملاءات الآخرين.
المطلوب اليوم هو الانتقال من موقع “الأداة” في صراعات الآخرين إلى موقع صناعة المصير لأحفاد الثوار.
وهذا لن يتحقق إلا بالتحرر من التبعية السياسية، وبإرساء علاقات قائمة على الندية والمصلحة المتبادلة، لا على الاستقواء بالقوى الإقليمية.
وحتى يكون لهذا المشروع مصداقية، يجب أن يرتبط بحياة الناس واحتياجاتهم الواقعية.
فالقضية الوطنية ليست شعارًا يرفع فوق الجوع والمعاناة، بل مسؤولية تتجسد في تحسين حياة المواطن، وتوفير الأمن والكرامة، وبناء مؤسسات قادرة على تلبية حاجاته الأساسية.
فالشعب الذي يُترك فريسة للفقر والمرض والبطالة لن يكون قادرًا على الدفاع عن قضيته، ولن يحمل راية التحرر ما لم يشعر أن هذا التحرر يعني له شيئًا في واقعه اليومي.
إن إحياء ذكرى ثورة 14 أكتوبر يجب أن يكون مناسبة للتفكير العميق لا للاحتفال العابر، محطة للمراجعة لا للتغني بالماضي. فهذه الثورة العظيمة لم تُكتب لتبقى في الكتب، بل لتكون نبراسًا يضيء طريق الحاضر والمستقبل.
إنها تذكير دائم بأن الجنوب لا يُبنى بالارتهان، ولا يُستعاد بالانقسام، وأن المجد الحقيقي لا يتحقق إلا بوحدة الصف واستقلال القرار، وبالإيمان بأن المستقبل لا يُهدى، بل يُصنع بوعي الشعوب وصمودها.
في النهاية، تبقى ثورة أكتوبر نداءً مفتوحًا لأبناء الشعب اليمني جميعًا: أن يتجاوزوا خلافاتهم، ويستعيدوا روح الأحرار الذين صنعوا المجد .
فمستقبل الشعب اليمني لن يُكتب إلا بأيديهم، ولن يكون جديرًا بتضحيات الماضي إلا إذا حرروا إرادتهم من قيود الحاضر، وبنوا وطنًا يليق بدماء الشهداء، ويكرم آلام المظلومين، ويرفع راية الحرية عالية كما رفعها أبطال أكتوبر قبل أكثر من ستين عامًا.
Next Post