ابن العلقمي و”وسطاء اليوم”..قراءة في التاريخ وإسقاط على واقع غزة

د.نجيب علي مناع

 

يبدو أن مشاهد التاريخ لا تغيب عن حاضرنا، وأن تجارب الأمس تعود لتطل علينا بوجوه جديدة، وإن اختلفت الأسماء والأماكن. فما حدث في بغداد في القرن السابع الهجري على يد الوزير ابن العلقمي، يتكرر اليوم في سياقات معاصرة، وإن بلباس الدبلوماسية والوساطة والحياد المزعوم. والجامع بين المشهدين هو إيهام الناس بالسلام، وفتح الطريق أمام القوى الكبرى لتفتك وتدمّر دون رادع.

حين أوهم ابن العلقمي الخليفة العباسي ومن حوله بوعود الأمان والتسويات مع التتار، كان في الواقع يهيّئ لسقوط الدولة، وسهّل دخول المغول إلى بغداد. رفع راية السلام في الظاهر، لكنه كان يجرّ الويلات في الباطن. وما إن وقعت المدينة تحت أقدام الغزاة حتى سُفكت الدماء على نحو لم يعرفه التاريخ من قبل، وقُتل مئات الآلاف من الجنود والمدنيين، في مجازر موثقة أدمت الوعي الإسلامي لقرون. إنه درس بليغ في خطورة الثقة بوعود من لا يملك القوة، أو ممن يتواطأ مع القوة الكبرى على حساب الشعوب.

وفي واقعنا الراهن، تبرز ما تسمى بـ»الدول المتوسطة»، التي تُقدّم نفسها كوسطاء بين القوى العظمى والشعوب المستضعفة. غير أن هذه الدول، وإن ظهرت بمظهر الساعي للسلام، لا تملك في الحقيقة أدوات التأثير أو مفاتيح الحل. بل كثيرًا ما تتحول إلى واجهة لتمرير سياسات القوى الكبرى، أو إلى قنوات تهدئة مؤقتة تسبق جولات جديدة من الدماء.

الوعود التي يقدّمها هؤلاء الوسطاء للفلسطينيين، وأهل غزة خصوصًا، لا تختلف كثيرًا عن وعود ابن العلقمي لبغداد؛ فهي وعود بلا سند واقعي، ولا قدرة على التنفيذ، بل قد تكون جسرًا يُعبر عليه الكبار نحو فرض شروط أكثر قسوة.

فإذا كان ابن العلقمي مجرّد أداة، فإن القوى الكبرى في التاريخ والواقع هي الفاعل الأساسي في صناعة الكارثة. التتار حينذاك لم يدخلوا بغداد إلا ليقتلوا ويهدموا ويزرعوا الرعب. واليوم، القوى الكبرى التي تدّعي رعاية السلام، لا تدخل ساحات الصراع إلا لتفرض توازنًا يخدم مصالحها ومصالح ربيبتها «الكيان الصهيوني»، ولو كان الثمن تدمير المدن وقتل الملايين وتشريد الشعوب واحتلال أراضي الغير

إنها المعادلة نفسها؛ وعود بالسلام، ثم اجتياح دموي، ثم إعادة رسم الخريطة بما يتوافق مع مصالح الأقوياء.

المخاوف اليوم مشروعة من أن يقع أهل غزة، المحاصرون المنهكون، في فخ الوعود التي يقدّمها الوسطاء. فرغم معرفتهم أن هؤلاء بلا حول ولا قوة، إلا أن الحاجة إلى التنفّس والنجاة قد تدفع البعض لتصديقهم أو التعويل عليهم. وهنا تبرز خطورة المشهد: قبول سلام موهوم قد يعني تمهيد الطريق لمجازر أعنف، تشبه ما وقع في بغداد قبل قرون.

غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة؛ إنها رمز لإرادة أمة بأكملها. وأي تنازل أمام وعود غير قابلة للتحقق، قد يُستغل لإجهاض مشروع المقاومة، أو لإعادة صياغة مستقبل فلسطين بما يخدم القوى الكبرى وحدها.

التاريخ ليس مجرد حكايات، بل هو بوصلة للعقل الجمعي. وحين نستحضر صورة ابن العلقمي وما جرى لبغداد، فإننا نقرأ تحذيرًا واضحًا: لا تسلّموا قراركم لمن لا يملك قوّة، ولا تصدّقوا وعود السلام القادمة من أطراف عاجزة أو متواطئة. فالتجارب تقول إن هذا الطريق لا يؤدي إلا إلى مذبحة أكبر، وضياع أثمن خاتم، إن الخوف من تكرار المشهد ليس مبالغاً، بل قراءة واقعية لتاريخ يعيد نفسه. فالدول المتوسطة التي تدّعي الوساطة ليست سوى انعكاس جديد لابن العلقمي، والقوى الكبرى لا تزال تحمل وجه التتار، وإن غيّرت لغتها وأدواتها. وغزة اليوم تقف أمام مفترق طرق: إما أن تصمد على وعيها وتقرأ دروس التاريخ جيدًا، أو أن تقع فريسة لوعود لا تسمن ولا تغني من جوع. فالوعي هو الحصن الأخير، وإدراك أن السلام الزائف قد يكون أشد فتكًا من الحرب، هو ما يحول دون تكرار مأساة بغداد في أرض فلسطين.

 

قد يعجبك ايضا