شهد المسجد الأقصى في الأعوام الماضية، تصاعدًا غير مسبوق في العدوان والاقتحامات وأداء الطقوس العلنية، وفي الآونة الأخيرة هذه الاعتداءات وكان من أبرزها النفخ في بوق «الشوفار» مع اقتراب «رأس السنة العبرية»، ويحمل هذا الاعتداء رسائل عديدة، تبعث من خلالها أذرع الاحتلال بأنّ هذا النفخ فارق بين زمنين، بين عامٍ عبريّ مضى، وعام آخر مقبل، ولكنه يستبطن أعمق من ذلك بكثير، إذ يُشير إلى انقضاء الزمن الإسلامي في المسجد الأقصى، وبداية الزمن اليهودي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وما يعنيه ذلك من سيطرةٍ كاملة على المسجد. ولا ريب بأن هذه العبارات ثقيلة على كل محبٍ للأقصى، غيورٍ على مقدسات الأمة، ولكن الواقع يؤكد هذا السعي اليهوديّ، فكيف يعيش الأقصى ما بين زمنين؟
خلو الأقصى من العنصر البشري الإسلامي
أشرنا في مقالٍ سابق عن محاولات الاحتلال إفراغ المسجد الأقصى من العنصر البشري الإسلامي، وسلطنا الضوء على الإبعاد عن المسجد، كواحدٍ من الأدوات التي تستهدف الوجود البشري الإسلامي في المسجد، إلى جانب القيود المختلفة التي تفرضها سلطات الاحتلال أمام أبواب المسجد وفي محيطه، والتي تشتدّ بشكلٍ كبير بالتزامن مع الأعياد اليهوديّة، ومواسم العدوان على الأقصى، وخاصة منع المصلين من الدخول إلى المسجد بالتزامن مع اقتحامات المستوطنين للأقصى شبه اليوميّة، وتحين قوات الاحتلال الفرص لإغلاق أبواب الأقصى، وهو ما تجلى إبان الحرب مع إيران، وإغلاق أبواب الأقصى لنحو 12 يومًا.
واستطاع الاحتلال من خلال هذه المروحة من القيود والإجراءات، ترسيخ مشهد الأقصى شبه الفارغ بالتزامن مع الاقتحامات، فلم يعد المسجد يشهد مواجهاتٍ عنيفة، وتصديًا لقطعان المستوطنين، فالمسجد لا يكاد يصل إليها إلا النذر اليسير من المصلين، وجلّ من تسمح لهم سلطات الاحتلال بالدخول إلى المسجد من كبار السن، وقد أشارت مصادر زارت القدس والأقصى، أن قوات الاحتلال تفرض أحيانًا بقاء المصلين في مصليات الأقصى المسقوفة، وتهدد من يخرق هذه الأوامر بإخراجه من الأقصى بشكلٍ مباشر.
ولا شكّ أن إجراءات الاحتلال، وترسيخ القبضة الأمنية في البلدة القديمة خاصة، وفي الشطر الشرقي من القدس عامةً، أدت إلى عرقلة حركة المقدسيين والفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية عام 48، وهو ما قللّ بشكلٍ كبير حجم الوجود الإسلامي في المسجد، وهنا نقطة أخرى بالغة الأهمية، ألا هي تضخيم الأثمان التي يدفعها الفلسطيني الذي يواجه الاحتلال بأي شكلٍ من الأشكال، وهي أثمانٍ تبدأ من الاعتقال وما يرافقه من تعاملٍ وحشي، ومرورًا بالأسر وما يرافقه من انتهاكات جسيمة، وأخيرًا بحصار الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وفرض الغرامات الباهظة، وهي بمجملها أدوات لحصار الفلسطيني، ومنعه من القيام بأي فعل لمواجهة الاحتلال داخل الأقصى أو في خارجه، وهو أحد الفواصل بين زمنٍ وآخر.
عزل الأقصى عن العالم
من أبرز أوجه ما تعمل عليه سلطات الاحتلال عزل المسجد الأقصى عن العالم، وعن فلسطين، فلم يعد الأقصى ذلك المتنفس للتضامن مع قضايا الأمة، ولم يعد يشهد تلك المظاهرات الحاشدة، ولو كان تنديدًا بالمجازر في غزة، والإبادة المتصاعدة، وما أقوله ليس في سياق اللوم، أو تحميل الأسباب لجهة أو فئة، إنما هو محاولة لتسليط الضوء على واقع متصلٍ بما يُحاك الأقصى، ونقله إلى زمنٍ آخر مشوه، لا نعرفه، ولا يعرف نفسه، وقد بلغ بالاحتلال حدّ منع خطباء الأقصى عن الحديث عن غزة، وذكر التجويع، ومعاناة السكان والتهجير، فيقوم باعتقال الشيخ، ويُبعده عن المسجد أشهرًا عدة، وهي مصادرة مباشرة لمنبر الأقصى، وعزل القدس مجددًا عن عمقها الفلسطيني، وكأن الأقصى في مكان، وفلسطين والضفة وما تعانيه في مكانٍ آخر تمامًا.
اقتحامات حاشدة في عام عبريّ
وقد أسهمت إجراءات الاحتلال إلى رفع أعداد مقتحمي الأقصى بشكلٍ كبير، ومن مؤشرات هذا التصاعد احتفاء «منظمات المعـبد» بما حققته في العام العبري المنصرم، فقد نشرت ما تُسمى «إدارة جبل المعبد» بالتزامن مع «رأس السنة العبرية» حصيلة اقتحامات المسجد الأقصى في العام العبري الماضي، وبحسب بياناتهم شارك في اقتحام الأقصى 58310 مستوطنات، وهو ما عدته المنظمات المتطرفة بأنه «رقم قياسيّ تاريخي» منذ احتلال القدس عام 1967، وبحسب هذه البيانات فقد سجل العام العبري زيادة بنحو 14 %، فقد اقتحم الأقصى بحسب بياناتهم 51,223 مستوطنًا في العام العبريّ الذي سبقه.
وفي سياق هذه القفزات في العدوان على المسجد علق رئيس هذه المنظمة الحاخام المتطرف شمشون ألبويم: «عودة إسرائيل إلى جبل المعبد تحدث أمام أعيننا، المزيد والمزيد من اليهود، والحاخامات، ورؤساء المعاهد الدينية يصعدون ويصلون في المكان المقدس.
بفضل الآلاف من الصاعدين وفقًا للشريعة بفرح وصلاة، نرى أيضًا إسرائيل تتقدم في جبل المعبد»، وتؤكد هذه المعطيات سعي أذرع الاحتلال إلى فرض سيطرتها الكاملة على الأقصى، والمضي قدمًا في حشد المزيد من المستوطنين للمشاركة في هذه الاقتحامات، وما يتعلق بها من فرض الوجود اليهوديّ الدائم في المسجد، والمضي قدمًا نحو زمنٍ لا مسلمين فيه.
وأمام هذا التدهور المستمر في ردود الفعل، والتي انحصرت بكل أسف في الكلام غير المثمر، والشجب والتنديد، وتآكل الوصاية الأردنية على المقدسات، وفي ظل قيام المقاومة الفلسطينية في غزة بما عليها، وقالت كلمتها بالدماء والطوفان، فإننا نعيش مرحلة يضمر فيه الحضور الإسلامي في الأقصى، وتتجه أذرع الاحتلال بشكلٍ متدرّج ومتصاعد نحو «تقسيم فعلي» للمسجد، إذ تشكّل استراتيجيّة ممنهجة تهدف إلى فرض التقسيم المكاني في الأقصى، بشكلٍ موازٍ لترسيخ التقسيم الزماني وتوسيع نطاقه، تمامًا كما حدث سابقًا في المسجد الإبراهيمي في الخليل. ومن المؤسف أن استمرار هذا العدوان دون مواجهة فاعلة يفتح الباب أمام مزيدٍ من الانتهاكات في المستقبل، وإن كنا في مرحلة يحاول فيها الاحتلال نقل الأقصى من زمنٍ إلى آخر، فإننا قريبًا سنشهد سيطرة الزمن اليهودي،» وتحول حلم الساسة الإسرائيليين ببناء «المعبد» إلى حقيقة ماثلة، وحينها «لات حين مندم».
* باحث في شؤون القُدس والأقصى