منذ أن وقع آرثر بلفور وعده المشؤوم عام 1917م، دخلت فلسطين نفقاً مظلماً ما زال يمتد حتى يومنا هذا. ذلك الوعد لم يكن مجرد رسالة سياسية عابرة، بل كان إعلاناً صريحاً بأن مصائر الشعوب يمكن أن تُكتب في غرف الاستعمار المغلقة بعيداً عن أهلها وأصحابها. بريطانيا، وهي القوة العظمى آنذاك، منحت أرضاً لا تملكها لشعب لا يستحقها، وأطلقت بذلك شرارة قرن كامل من المآسي: تهجير، مذابح، حروب متتالية، وتشريد أجيال كاملة من الفلسطينيين الذين دفعوا ثمن هذا الوعد بدمائهم وبيوتهم وأرضهم. لقد تحول بلفور إلى رمز للخيانة الدولية والتواطؤ العربي، حيث لم تواجه تلك الجريمة بموقف عربي حاسم، بل بالصمت أو العجز، حتى أصبحت فلسطين سلعة تفاوضية تُباع وتُشترى في صفقات السياسة العالمية.
لكن المأساة لم تنتهِ عند حدود بريطانيا، بل انتقلت بسلاسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي حملت مشعل الوصاية الغربية على المنطقة وأعادت إنتاج المشروع الصهيوني بمقاييس أكبر وأشد. أمريكا ليست مجرد حليف لكيان الإسرائيلي الصهيوني، بل هي الراعي الأساسي لوجوده، الممول لأسلحته، والغطاء الذي يحمي جرائمه في مجلس الأمن وفي كل المحافل الدولية. واشنطن لم تكن يوماً وسيطاً محايداً، بل كانت الطرف الأشد تورطاً في العدوان على الشعب الفلسطيني. هي التي أمدت الكيان الإسرائيلي الصهيوني بالقنابل التي دمرت غزة، وهي التي وفرت الغطاء السياسي لكل المجازر، وهي التي ضغطت على الأنظمة العربية لتبقى خاضعة، صامتة، أو متواطئة مع ما يُحاك ضد فلسطين. من هنا فإن الحديث عن بلير ليس سوى ستار يخفي الدور الأمريكي، لأن بلير ليس إلا أداة من أدوات مشروع أكبر تصوغه واشنطن ولندن معاً.
توني بلير، الذي يحاولون تقديمه اليوم كوصي على غزة تحت عناوين إنسانية أو سياسية، ليس سوى نسخة جديدة من بلفور القديم. بلير هو الرجل الذي لعب الدور المحوري في تدمير العراق، حين قدّم الأكاذيب حول أسلحة الدمار الشامل ليبرر غزو دولة عربية، وأسهم في قتل وتشريد الملايين. كيف يمكن أن يكون من ساهم في تمزيق العراق منقذاً لشعب فلسطين؟ مجرد طرح اسمه وصايةً على غزة هو إهانة مضاعفة، واستعارة فجة للغطرسة الغربية التي تعتقد أن بوسعها أن تبدل الوجوه وتغير الأسماء دون أن يتغير الجوهر. والجوهر هنا هو مشروع انتداب جديد، لا هدف له سوى السيطرة على القرار الفلسطيني وتجريد غزة من إرادتها وسيادتها.
إن أخطر ما في هذه المؤامرة ليس أسماء الشخصيات المطروحة، بل المناخ العربي الذي يسمح بتمريرها. لقد ثبت بالتجربة أن الصمت العربي الرسمي هو الأرضية التي تنمو عليها مشاريع الوصاية. يوم بلفور صمتت أنظمة عربية أو انشغلت بصراعاتها، فكان الثمن فلسطين. واليوم يتكرر المشهد؛ بيانات متفرقة، تصريحات متذبذبة، تجاذبات سياسية عقيمة، وفي النهاية يمر المشروع خطوة بعد خطوة. إن هذا الصمت جريمة تاريخية جديدة لا تقل بشاعة عن الجريمة الأولى، بل قد تكون أشد وطأة لأننا نعيشها بعد أن دفعنا مئة عام من الدماء والتضحيات.
غزة اليوم ليست مجرد قطعة أرض متنازع عليها أو ملف إنساني يحتاج إلى إدارة مؤقتة، بل هي مدرسة في الصمود أسست خطاباً جديداً للكرامة. هذا الشعب الذي قاوم الحصار والجوع والحروب لعقود متتالية لم يخرج ضعيفاً أو مستسلماً، بل خرج أكثر وعياً وإصراراً. غزة أثبتت أن الإرادة الشعبية قادرة على كسر أعتى المحافل الدولية، وأن الدم الفلسطيني حين يصر على البقاء يتحول إلى معادلة سياسية لا يمكن تجاوزها. كل من يتحدث عن وصاية دولية على غزة يتجاهل أن الحل الحقيقي لا يكمن في تعيين وصي جديد، بل في رفع الحصار الجائر، وفك العزلة، ودعم صمود الناس، وتمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم بأنفسهم دون تدخل. أما من يقترح غير ذلك فهو يقترح ببساطة إعادة إنتاج الانتداب الاستعماري بصيغة معاصرة، النتيجة نفسها وإن اختلفت الشعارات.
ولأن الأنظمة العربية أثبتت عجزها أو تواطؤها، فإن الأمل الوحيد يتبقى في الشعوب. الشعوب العربية هي التي تمتلك القدرة الحقيقية على قلب الطاولة وإفشال هذه المشاريع. التاريخ علمنا أن الإرادة الشعبية حين تتحرك تُجبر الحكومات على تغيير مواقفها، وتفرض على القوى الدولية أن تحسب ألف حساب. إذا خرجت الجماهير العربية إلى الشوارع، إذا أعلنت رفضها القاطع لأي وصاية أو انتداب جديد، فإن المشروع سيتقلص وسينكسر قبل أن يرى النور. لكن إذا استمر الصمت واللا مبالاة، فإن بلفور جديداً سيكتب باسم بلير أو غيره، وستضاف خيانة أخرى إلى سجل طويل من التواطؤات التي لن يرحمها التاريخ.
إن الشعوب ليست مطالبة بإحداث فوضى أو بإسقاط الأنظمة، وإنما هي مطالبة بأن تضع الضغوط اللازمة، أن ترفع صوتها، أن تجعل من قضية فلسطين محوراً لا يقبل التنازل. المظاهرات، المقاطعة الاقتصادية، الحراك الإعلامي، الضغط على البرلمانات والنقابات، كلها أدوات مشروعة يمكن أن تحول المواقف الرسمية من صمت إلى فعل، ومن تواطؤ إلى مواجهة. وحدها الإرادة الشعبية الموحدة قادرة على أن تعيد فلسطين إلى مسارها الصحيح، وأن تجبر من يدّعون الوساطة على احترام خيارات الفلسطينيين دون وصاية أو إملاء.
إن التاريخ لن يغفر لمن يفرط في القضية مرتين. المرة الأولى كانت يوم ارتُضي وعد بلفور، حين جرى تسليم فلسطين كهدية استعمارية إلى المشروع الصهيوني. والمرة الثانية ستكون إذا سكت العرب اليوم أمام محاولة فرض وصاية جديدة على غزة، برعاية أمريكية وغربية. والأسوأ أن الخطر هذه المرة لا يأتي من الخارج وحده، بل من داخل الدوائر الرسمية التي تبرر صمتها بحسابات آنية ومصالح ضيقة، فتجعل من فلسطين ورقة مساومة في صفقات إقليمية ودولية. هذه خيانة مضاعفة يجب أن تُدان بلا تردد، لأنها ليست مجرد تفريط في أرض بل في هوية أمة بكاملها.
من بلفور إلى بلير، تتكرر المؤامرة بوجوه مختلفة ولكن بهدف واحد: إبقاء فلسطين تحت الوصاية وتجريدها من سيادتها. الفرق الوحيد أن الشعوب اليوم تمتلك من الوعي والقدرة ما يمكنها أن تقلب الموازين إذا أرادت. فإذا نهضت الأمة، فلن ينجح لا بلفور ولا بلير ولا واشنطن بكل قوتها. أما إذا سكتت، فسيكتب التاريخ أن الشعوب العربية، حين حان وقت القرار، اختارت الغياب، وتركت فلسطين وحدها في مواجهة المؤامرة. الراهن لم يعد في يد القادة، الذين أثبتوا عجزهم وتواطؤهم، بل في يد الشعوب التي تستطيع وحدها أن توقف مشاريع الوصاية، أن ترفض الانتداب الحديث، وأن تحمي فلسطين من الشر الأمريكي ومن الغطرسة الغربية. إن ساعة الحقيقة قد دقت، وفلسطين تنتظر منكم الموقف لا الصمت، الفعل لا البيانات، لأن التاريخ هذه المرة لن يرحم من يخذلها أو يبيعها مرة أخرى.