النزوح .. كابوس الغزيين وسط حرب الإبادة الصهيونية

 

الثورة  / وكالات

في الطابق السابع من برج سكني وسط مدينة غزة، وجد محمد العطار نفسه أمام قرار لم يسبق أن تخيّله يومًا. دقائق قليلة كانت كافية ليغادر شقته التي جمع أثاثها قطعة قطعة على مدى سنوات من العمل في الخليج.

اضطر العطار للنزوح عن شقته بعد تهديد إسرائيلي بقصف البرج ولم يسعفه الوقت لأخذ شيء سوى حقيبة صغيرة فيها بعض الملابس وأوراقًا ثبوتية، تاركًا وراءه شقة لم يسدد كامل ثمنها بعد، بأثاثها وذكرياتها، رهن احتمالات القصف.

يقول العطار بصوت متألم لمراسلنا: “شعرت وكأنني أُنتزع من بيتي كما تُنتزع الروح من الجسد. كان القرار أشدّ قسوة من أن يوصف، لكن النجاة بأطفالي أهم من أي شيء آخر”.

وكثف الاحتلال الإسرائيلي قصف الأبراج والبنايات السكنية العالية في الأيام الماضية ضمن محاولته دفع مئات الآلاف من المواطنين والنازحين لمغادرتها باتجاه الجنوب.

قصف الأبراج في غزة.. تدمير عمراني وتمهيد لاحتلال المدينة

الظروف جعلت من المستحيل نقل الأثاث، فالمصاعد معطلة بفعل انقطاع الكهرباء، والنزول من السلالم الضيقة مع قطع خشبية أو أجهزة كهربائية يحتاج عمالًا، وتكاليف النقل تتجاوز قيمة المقتنيات نفسها.

بعض الجيران – كما يروي – لجؤوا إلى بيع خزائنهم وأسِرّتهم كحطب للطهو أو التدفئة، مشهد يلخّص قسوة الحياة في غزة حين تتحوّل الممتلكات من رمز للراحة إلى وسيلة للبقاء.

من برج حديث إلى خيمة

رحلة النزوح كلّفت العطار أكثر من 2500 شيكل، بين سيارات الأجرة، ونقل بعض الأغراض الصغيرة، وتأمين مأوى مؤقت.

وصل إلى بيت قريب له في دير البلح، لكنه فوجئ بالبيت مكتظًا بعشرات النازحين. لم يجد مأوى سوى مساحة فوق السطح، لينصب عليها خيمته، يعيش اليوم مع أسرته الصغيرة في ظروف بالكاد تصلح للحياة.

مراسلنا يكتب من قلب مدينة غزة.. نبقى ولن نرحل

يقول: “كنت أعيش في شقة مساحتها 150 مترًا في برج حديث بكلفة 70 ألف دولار. اليوم أنا في خيمة لا تتجاوز عشرة أمتار، سقفها ينضح بالمطر إذا هطل”.

نزوح مُنهك ماليًا

القصة لا تتوقف عند محمد. أم محمود، نازحة أخرى من حي الرمال، تحكي أن انتقالها مع أسرتها المكوّنة من سبعة أفراد إلى دير البلح كلّفهم نحو 4000 دولار.

المبلغ توزّع بين أجور النقل الباهظة، وشراء خيمة كبيرة، وبناء حمام بدائي من الطوب والصفيح، لتأمين حدّ أدنى من الخصوصية.

تقول: “النزوح هنا ليس فقط فقدان بيت وأثاث، بل استنزاف لما تبقى من مدخراتنا القليلة. حتى العودة عند التهدئة كلّفتنا مبالغ جديدة”.

مأساة متكررة

الاقتصادي محمد أبو جياب يشرح أن هذه التكاليف تأتي في سياق اقتصادي شديد القسوة: حصار مستمر منذ أكثر من 19 عامًا، أسعار وقود ومواصلات ومواد أساسية ملتهبة، وركود شبه كامل في عجلة الحياة.

كثير من العائلات، كما يقول، وجدت نفسها مضطرة لبيع ممتلكاتها بأسعار زهيدة أو الاستدانة، فقط لتغطية كلفة النزوح. “هذه الدورة المتكررة من نزوح وعودة دمّرت الاقتصاد الأسري، العائلات استنزفت مدخراتها في صفقات خاسرة، ولم تعد قادرة على إعادة البناء”.

من فقدان البيت إلى فقدان الأمان

لا يقتصر النزوح على خسارة المنازل. هو أيضًا فقدان للشعور بالأمان والاستقرار. الأطفال الذين اعتادوا النوم في غرفهم الخاصة، صاروا اليوم يتقاسمون الأرضية مع أبناء العمومة في خيمة مكتظة.

النساء اللواتي كنّ يدبّرن شؤون بيوتهن بكرامة، صرن يقفن في طوابير طويلة للحصول على لتر ماء أو وجبة ساخنة.

نزوح بلا نهاية

قصص العطار وأم محمود وغيرهما، ليست سوى نماذج من آلاف الحكايات في غزة. نزوح يبدأ بخوف، يمر بخسارة ممتلكات وأموال، وينتهي بمأوى مؤقت لا يصلح للحياة. ومع كل جولة تصعيد جديدة، تعود الدورة من البداية: إخلاء قسري، استقرار هشّ، ثم عودة منهكة مكلفة.

في هذه الدورة المتكررة، تحوّل النزوح من حالة طارئة إلى واقع مزمن. والبيت الذي كان يومًا حلم العمر، صار مجرّد ذاكرة معلّقة بانتظار عودة قد لا تأتي.

قد يعجبك ايضا