حين تكتسي الأرض خضرة والقلوب صلوات

خديجة طه النعمي

 

حين يطلّ ذكرُ مولدِ المصطفى، تنهضُ الدنيا من سباتها، وتغتسل الأرواح بضياء النبوّة، فتشرق الأرض كما لم تشرق من قبل، وتتنفّس السماء أنساماً معطّرة بالصلاة والسلام على سيد الأنام، إنّه يومٌ لا يشبه الأيام، لحظةٌ يتزيّن فيها المكانُ والزمانُ بوشاحٍ أخضر، وتنتظم القلوب في عقدٍ واحد، تهتف باسم محمدٍ صلوات الله عليه وآله، فها هو المولد النبوي الأغرّ، شمسٌ تتوسط سماء الزمان، فتذوب أمامه الظلمات، وينشقُّ الفجرُ عن نورٍ محمّديٍّ يغمر الدنيا بالضياء، كأنّ الدهر كلَّه قد اغتسل من غباره، وارتدى أثواباً خضراءَ من سندس البهجة ووشاح الرحمة، الأرضُ في هذا اليوم محرابٌ عظيم، والسماءُ قناديلُ مضاءة، والهواءُ يعبقُ مسكاً وريحاناً، يطوفُ بالقلوب كما تطوفُ الأرواح حول بيت الله الحرام.

في الساحات، بحرٌ بشريٌّ هادر، موجهُ أطفالٌ كالفراشات، يتقافزون بفرحٍ بريء، تترنم حناجرهم الغضة بنداءٍ خالد، لبيك يا رسول الله… صوتٌ يخرج من أعماق الفطرة، لينبت فيهم حبّ المصطفى كما ينبت الغرسُ في تربةٍ نديّة، بالقرب منهم، مسنّاتٌ أنهكتهنّ السنون لكن قلوبهنّ فتية، وجوههنّ تضيئها دموعُ الشوق، وشفاههنّ ترتجف بذكر الحبيب، ترفع أكفّ الدعاء، وتلهج بالسلام على سيد الكائنات، يا له من مشهدٍ عجيب! يلتقي فيه الطهرُ بالبراءة، والشيبةُ بالطفولة، فينصهر الجميع في نهرٍ واحدٍ من الولاء المحمدي.

في الساحات ترتفع الأهازيجُ كأمواجٍ نورانية، تتجاوب معها الجبال والوديان، ويذوب المكان في سيلٍ من الصلوات والدعوات، حتى يخال لك أنّ الأرض قد تحوّلت كلها إلى ساحة ذكرٍ واحدة، وفي ذروة هذه اللحظة المهيبة، يطلّ القائدُ العلم السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي – يحفظه الله، فتشتعل الساحات بالتكبير، وتعلو الصرخات كالرعد، وتخفق القلوب كالطير، إذ تغمرها هيبةُ الإطلالة المباركة، وحرارةُ الولاء الصادق، فيتجلّى المشهد كعرسٍ سماويٍّ على الأرض، وهنا، يخطر بالبال أنّ الحجر والمدر، والشجر والثرى، كلها تشارك البشر تسبيحهم، وتهتف بالصلاة على محمد وآله، وكأنّ الكون بأسره قد انحنى إجلالاً لهذه المناسبة، وانصهر في سيمفونيةٍ روحانيةٍ لا يحدها زمان ولا مكان.

فيا سيّد الوجود، يا من أشرقت بك الأرضُ والسماء، يا مصباح الهداية ومفتاح النجاة، يا رحمةً مهداةً ونعمةً مسداة، صلواتُ الله وسلامه عليك وعلى آلك الأطهار ما تعاقب الليل والنهار، وما تفتّحت أكمامُ الزهر على ضفاف الأنهار، وما صدحت الطيورُ في بساتين العمر،

سلامٌ عليك يومَ جئتَ نوراً للعالمين، ويومَ هتفت باسمك ألسنةُ المؤمنين، ويومَ تُستقبل شفاعتك في الموقف العظيم، سلامٌ يتردّد في القلوب كما يتردّد الصدى بين الجبال، ويتضاعف مع كل نَفَسٍ ويزدان مع كل لحظة، لا ينقطع ما دامت الأرواح تسبّح، والأكوان تنبض، والخلائق جميعاً تشهد أنك رسول الله وخاتم أنبيائه.

والحمد لله الذي شرّفنا بأن نكون في صفِّ اليمنيين المحمديين، نُحيي ذكراه العطرة، ونستضيء بسيرته النيّرة، ونستمسك بحبله المتين، في مولده نعلن ولاءً لا يخبو، وعهداً لا ينكث، وحباً لا ينضب، ليبقى هذا اليوم موسماً للرحمة، ومشعلاً للهداية، ونهراً يتدفّق في قلوب المؤمنين جيلاً بعد جيل.

فطوبى لمن أحيا ذكره، وطوبى لمن صلى عليه وآله، وطوبى لأمةٍ تهتف من أعماقها لبيك يا رسول الله، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

 

 

قد يعجبك ايضا