أكاديميون: تكامل المسارات مرتكز بناء دولة مدنية حديثة

مشروع بناء الدولة اليمنية الحديثة هو أهم التطلعات الشعبية منذ عام 2011م لنقل اليمن إلى مرحلة جديدة من التحول الحضاري, إلا أن تشخيص الواقع الاجتماعي اليمني يشير إلى أن هناك كثيراٍ من العوامل التي لا تزال تتحكم في مسار توجهات تأسيس بناء الدولة المدنية, أهمها التخلف العام وحالة التجزئة الناتجة عن الصراعات السياسية والمذهبية والقبلية, وأخيراٍ دور الفاعل الخارجي في إعاقة هذا التحول, إذ أن أهم نتيجة يمكن الوقوف عليها لاضطلاع هذا المثلث, هي تهميش دور المجتمع المدني والحد من فاعليته على الرغم من أن المرحلة الانتقالية شهدت زيادة مساحة تواجده على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية, إلا أن النقاش لا يزال يدور حول التصورات بشأنه والتحديات الذاتية والموضوعية التي يمكن أن تكون حجر عثرة أمام إقامة هذا المشروع الحضاري, وهو ما حاولنا أن نسلط الضوء عليه في هذا الاستطلاع :

كانت البداية مع المحلل السياسي الأكاديمي بجامعة صنعاء الأستاذ الدكتور حيدر غيلان الذي استهل حديثه قائلاٍ: إن المدنية ثقافة مجتمعية قبل أن تكون أسلوبا في الإدارة وهذا يعني أن قيام دولة مدنية حديثة يحتاج إلى وعي مجتمعي يتجاوز التفكير التقليدي الذي يخلط بين الدولة والقبيلة وبين الدولة والحزب وبين العام والخاص ومع هذا فالشعب اليمني بطبعه يميل إلى سيادة النظام والقانون ونحتاج أولا إلى استنهاض المجتمع ليكون عونا على قيام الدولة المدنية الحديثة ونحتاج أيضا إلى أن يجسد القائمون على إدارة شؤون البلاد -في أسلوب إدارتهم- مفهوم الدولة المدنية التي تعني المؤسسية وسيادة النظام والقانون والإيمان بالحرية والمساواة بين أبناء المجتمع ومن هنا عليهم الابتعاد عن المحسوبية والمجاملات الشخصية وعدم تسخير إمكانات الدولة لخدمة حزب أو جهة أو فرد وأن يبتعدوا عن الأسلوب المعتاد في تحويل مؤسسات الدولة إلى ملك خاص لمن يرأسها وعلى الحكومة أن تتجه إلى بناء المؤسسات وتبدأ بإيجاد قضاء مستقل ومؤسسات أمنية وعسكرية وطنية قادرة على حفظ الأمن وتطبيق مبدأ سيادة القانون على الجميع وعلى الحكومة العمل على تشجيع الاستقلال المالي وإرساء الأسس المهنية والتنافسية في المؤسسات التعليمية والإعلامية والاقتصادية وأن ترسي مبدأ الكفاءة والمقدرة على تقديم الأفضل في اختيار قيادات هذه المؤسسات وعلى القوى السياسية أن تعي الفرق جيداٍ بين الدولة التي تمثل اليمنيين جميعا والحزب أو المصلحة الذاتية.
أركان أساسية
وعلى ذات النسق تحدث الدكتور أمين مهدي الكميم -نائب مركز بن خلدون الطبي قائلاٍ: إن قيام الدولة المدنية الحديثة يتطلب عدداٍ من الأركان الأساسية المتكاملة المتساندة التي يدعم بعضها بعضاٍ في منظومة متكاملة تكاد تكون هي منظومة الحياة الحديثة, منها: أن الدولة المدنية الحديثة تْعرف على أنها اتحاد من أفراد يعيشون في مجتمع يخضع لنظام من القوانين مع وجود قضاء يطبق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل بحيث لا يخضع أي فرد لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر, فثمة دائما سلطة عليا ـ هي سلطة الدولة ـ يلجأ إليها الأفراد عندما تنتهك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك. بالإضافة إلى أن الدولة المدنية تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة, إن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاقº أي وجود حد أدنى من القواعد التي تشكل خطوطا حمراء لا يجب تجاوزها على رأسها احترام القانون (وهو يشكل القواعد المكتوبة), ويأتي بعده قواعد عرفية عديدة غير مكتوبة تشكل بنية الحياة اليومية للناس تحدد لهم صور التبادل القائم على النظام لا الفوضى وعلى السلام لا العنف وعلى العيش المشترك لا العيش الفردي وعلى القيم الإنسانية العامة لا على القيم الفردية أو النزعات المتطرفة. وإلى جانب كل ذلك هناك ركن المواطنة التي تتعلق بتعريف الفرد الذي لا يْعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته, وإنما يْعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات, وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين. وبهذه الأركان الأولية المهمة تتأس الدولة المدنية لأن القانون يؤسس قيمة العدل والثقافة المدنية تؤسس قيمة السلام الاجتماعي والمواطنة تؤسس قيمة المساواة, وبالتالي يتساوى المواطنون أمام القانون, ولكل منهم حقوق وعليه التزامات تجاه المجتمع الذي يعيش فيه, وتلك هي بوادر الدولة المدنية.
الدين والسياسة
وفيما يخص علاقة الدين بالدولة المدنية أكد الدكتور الكميم أن الدولة المدنية لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة رغم أن الدين يظل في الدولة المدنية عاملا أساسيا في بناء الأخلاق وفى خلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم, هذه وظيفة للدين أصيلة في كل المجتمعات الحديثة الحرة.. ومن ثم فليس صحيحا أن الدولة المدنية تعادي الدين أو ترفضه, فالدين جزء لا يتجزأ من منظومة الحياة وهو الباعث على الأخلاق والاستقامة والالتزام بل إنه عند البعض الباعث على العمل والإنجاز والنجاح في الحياة, ينطبق ذلك على الإنسان في حياته اليومية كما ينطبق على رجال السياسة بنفس القدر. مضيفاٍ: أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية, فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية فضلا عن أنه -وربما يكون هذا هو أهم هذه العوامل- يحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة, ومن ثم فإن الدين في الدولة المدنية ليس أداة للسياسة وتحقيق المصالح ولكنه يظل في حياة الناس الخاصة طاقة وجودية وإيمانية تمنح الأفراد في حياتهم مبادئ الأخلاق وحب العمل وحب الوطن والالتزام الأخلاقي العام.
تطور مجتمعي
وفي نفس السياق وبخلفية تاريخية تحدث أستاذ التاريخ بجامعة صنعاء الدكتور خالد المطري قائلاٍ: “إن ظهور الدولة اليمنية المدنية الحديثة يتطلب تطوراٍ فكرياٍ واجتماعياٍ وسياسياٍ يمر بمراحل تاريخية لا يمكن تحقيقها خلال بضع سنوات”, لأن حقيقة الدولة المدنية الحديثة بمفهومها العام هي نتاج تطور أوروبي غربي ظهر إلى الوجود بعد قرون طويلة كانت فيها السلطة والحقوق بيد الكنيسة والسادة الإقطاعيين ورفض الأوروبيين لهيمنة هاتين السلطتين وسعيهم إلى نيل حريتهم الدينية والفكرية ونيل حقوقهم السياسية والمادية أدى إلى حدوث ثورات وتغيرات جذرية في بنية المجتمع الأوروبي نقلت أوروبا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث, ومن خلال مبادئ الثورة الفرنسية ومفكري عصر التنوير ظهرت أسس ومقومات الدولة المدنية الحديثة والتي عبرت في أولى صورها عن نبذ السلطة الدينية والحرص على أن تكون الحريات والحقوق فيها مؤسسة على المواطنة وليس أي معايير أخرى وانتهت إلى ما يعرف بالديمقراطيات اللبرالية كما هو الحال بالنسبة لأمريكا واليابان.
وخلص المطري إلى القول: أنه لا يمكن الحديث عن وجود دولة مدنية حديثة في اليمن قبل أن تظهر فيها دولة القانون التي تتولى رعاية الحريات والحقوق, وتسود الديمقراطية اللبرالية, وتطور مكونات المجتمع, واختفاء القوى العسكرية والقبلية والدينية المسيطرة على مقاليد الأمور.
خصوصية وتنوع
ومن وجهة نظر قانونية تحدث أستاذ القانون بجامعة صنعاء الدكتور أحمد عبد الملك حميد الدين, قائلاٍ: “بالأسلوب الديمقراطي في خلق الوعي الجماهيري بالدولة المدنية نستطيع أن نؤسس لدولة حديثه قوامها يقوم على مبدأ سيادة القانون وتبادل السلطة سلميا واحترام الحقوق والحريات, لأن الديمقراطية ترتكز على الحوار الصريح والإقناع والسعي إلى حلول وسط”.. وبأن التأكيد الديمقراطي على الحوار لا يفترض فحسب وجود اختلافات في الآراء والمصالح بشأن معظم مسائل السياسة ولكن يفترض أيضا أن لهذه الاختلافات الحق في أن يعبر عنها وأن يستمع إليها .. وهكذا تفترض ديمقراطية الاختلاف والتعدد داخل المجتمع وعندما يجد هذا الاختلاف تعبيرا عنه يكون الأسلوب الديمقراطي لحل الخلافات هو بالمناقشة والإقناع والحلول الوسط .
مدنية إسلامية
إلى حد ما خالف الدكتور حميد الدين من سبقه فيما يخص الدين والدولة المدنية الحديثة بالقول: أن مفهوم الدولة المدنية لا يتعارض مع مفهوم الدولة الإسلامية, وهناك الكثير من الشواهد في التاريخ السياسي الإسلامي أهمها: تتجلى في ملامح الدولة المدنية في وثيقة المدينة المنورة أول دستور مكتوب حيث تم فيها تحديد المسؤولية الشخصية للأفعال, وتجريم دعوات الثأر الجاهلية وجرمت نصرة المحدث (المجرم) أو إيواءه, كما أكدت على وجوب الخضوع للقانون ورد الأمر إلى الدولة وأكدت أنِ لا حرب و لا سلم إلا حرب الدولة و سلمها. ومن الشواهد على تأصيل الدولة المدنية الحديثة بقيمها وأسسها هو مبدأ المساواة أمام القانون كما تعاملت الدولة مع قضية المرأة المخزومية التي سرقت, أو قضية الرجل القبطي مع ابن الوالي, فكل ذلك يخبرنا عن تساوي أفراد المجتمع في الكرامة الإنسانية بغض النظر عن الانتماء الديني أو الطبقي, بالإضافة إلى تعبيره عن مبدأ سيادة القانون على الجميع, وهو أساس قيام الدولة المدنية بأي عصر.

قد يعجبك ايضا