خليل المعلمي

المديح النبوي.. تعبير خالص عن حب النبي وتعظيمه وتوقيره

 

أصبح صلى الله عليه وسلم الشخصية العظيمة والأولى لدى المسلمين، يقتدون به ويسيرون على نهجه، يأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحي.
تأثر به المفكرون والمبدعون والفلاسفة والمصلحون في كل زمان ومكان، كتبوا سيرته، ومشوا على نهجه وطريقته، ولهذا فقد حظي باهتمام كبير – قديما وحديثا- في أدبنا العربيّ شعرا ونثرا على حدِّ سواء، وقد رسم الشّعراء ملامحه وأخلاقه وصفاته في أجمل صورها، وتفنّنوا في مدحه منذ ولادته إلى وفاته، وما بعدها إلى يومنا هذا.
وأصبحت هذه القصائد تسمى بالمدائح النبوية، واعتبرت فرعاً مستقلاً من فروع الشعر، كما أن لهذا الفرع مصطلحاته الخاصة، واستعاراته الفريدة، وقد برز هذا المذهب الشعري، مع فجر الإسلام وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته.
مفهوم المديح النبوي
المديح النبوي هو ذلك الشعر الذي ينصب على مدح النبي صلى الله عليه وسلم بتعداد صفاته الخلقية والخلقية وإظهار الشوق لرؤيته وزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية ونظم سيرته شعرا والإشادة بغزواته وصفاته المثلى والصلاة عليه تقديرا وتعظيما.
ويُظهر الشاعر المادح في هذا النوع من الشعر الديني تقصيره في أداء واجباته الدينية والدنيوية، ويذكر عيوبه وزلاته المشينة وكثرة ذنوبه في الدنيا، مناجيا الله بصدق وخوف مستعطفا إياه طالبا منه التوبة والمغفرة، وينتقل بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طامعا في وساطته وشفاعته يوم القيامة، وغالبا ما يتداخل المديح النبوي مع قصائد التصوف وقصائد المولد النبوي.
وتعرف المدائح النبوية كما يقول الدكتور زكي مبارك بأنها: ” فن من فنون الشعر التي أذاعها التصوف، فهي لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع؛ لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص”.
ظهـور المديح النبوي
ظهر المديح النبوي في المشرق العربي مبكراً مع مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأذيع بعد ذلك مع انطلاق الدعوة الإسلامية وشعر الفتوحات الإسلامية إلى أن ارتبط بالشعر الصوفي مع ابن الفارض والشريف الرضي، ولكن هذا المديح النبوي لم ينتعش ويزدهر ويترك بصماته إلا مع الشعراء المتأخرين وخاصة مع الشاعر البوصيري في القرن السابع الهجري الذي عارضه كثير من الشعراء الذين جايلوه أو جاءوا بعده، ولا ننسى في هذا المضمار الشعراء المغاربة والأندلسيين الذين كان لهم باع كبير في المديح النبوي.
أهم شعراء المديح النبوي
لقد تسابق الشعراء في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته وقاموا بوصفه وتعظيمه وتعداد صفاته وخصاله ووصف أخلاقه، والتطرق إلى معجزاته، ومناجاته وطلب شفاعته، ومن أهم شعراء المديح النبوي حسان بن ثابت الأنصاري وهو أحد الشعراء الذين تكفلوا بمهمة الرد على هجاء شعراء الكفار والمشركين، وأبرز المدافعين عن الإسلامي، ويتميز شعره بأنّه شعر مساجلات ونقائض مع شعراء قريش، أو في رثاء من ينال الشّهادة في المعارك مع المشركين، كما يتميّز بالصّدق والإخلاص لرسول الله خاصّة وصحابته ومن تبعه عامّة، إضافة إلى قوّة الرّوح والحماسة الشّديدتين، ومما قاله في الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
إنّ الـذوائبَ منْ فهرٍ وإخوتهم
قدْ بينوا سنة ً للنّاسِ تتبـعُ
يَرْضَى بهَا كُلُّ مَن كانَتْ سرِيرَتُهُ
تقوى الإلهِ وبالأمرِ الّذي شرعوا
قومٌ إذا حاربوا ضروا عـدوهم
أوْ حاوَلُوا النّفْعَ في أشياعِهِمْ نَفعوا
سجية تلكَ منهمْ غيرُ
إنّ الخـلائِق فاعلَمْ، شرُّها البدَعُ
أما الشاعر كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه كان مِن أهم مَن اعتمد عليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحروب والمغازي لتهديد المشركين وتوعدّهم والرّد على هجائهم.
ولعلّ أشهر ما امتدح به كعبٌ رسولَ الله هو ما قاله بعد وفاته مُلِحًّا على عينيه أن تبكيا على رسول الله بدمع منهمر مبينا بعض خصاله الحميدة ومناقبه ومآثره، يقول:
أيا عين فابكي بدمـع ذُرَى
لخـير البـريّة والمصـطفي
وبكّي الرّسول وحـقّ البـكى
عليه لدى الحرب عنـد اللقى
على خير من حمـلـت ناقة
واتقى البـريّة عـند التّـقى
كما مدح كعبٌ رسولَ الله في أبيات أخرى متفرّقة من قصائد مختلفة، عدّد فيها أخلاقه وخصاله متأثرا بما جاء به الإسلام من مناقبَ وقيمٍ جديدة.
ومن الشعراء الذين عاشروا الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلم عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير بن أبي سلمى أحد الشّعراء المخضرمين في عصره، بلغ من الشّعر والشّهرة حظّاً وافراً خاصّة بعد مدحه للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ومما قاله:
إِنَّ الرَسـولَ لَسَيـفٌ يُستَضاءُ بِـهِ
مُهَنَّدٌ مِـن سُيوفِ اللَـهِ مَسـلولُ
في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم
بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّـا أَسَلَموا: زولوا
زَالوا، فَمازالَ أَنكاسٌ، وَلا كُشُفٌ
عِندَ اللِقاءِ وَلا مـيلٌ مَعازيـلُ
شُـمُّ العَرانـيـنِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ
مِن نَسْـجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
بيضٌ سَـوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ
كَأَنَّها حَلَـقُ القَفعاءِ مَجدولُ
بردية المديح
من أهم المؤلفات التي تناولت المدائح النبوي والقصائد في مدح ووصف الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هو “بردية المديح” لرائد المدائح النبوية -كما يسميه النقاد والأدباء- شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري رحمه الله تعالى، ويحتوي الكتاب على عشرة فصول وبلغ عدد أبيات القصيدة المائة والستين بيتاً ذكرها “البوصيري” في أخر الأبيات الأخيرة من القصيدة:
وهذه بردة المختار قد ختمت
والحمد لله في بدء وفي ختم
أبياتها قد أتت ستين مع مائة
فرج بها كربنا يا واسع الكرم
وتعد قصيدته الشهيرة “الكواكب الدرية في مدح خير البرية” والمعروفة باسم “البردة” من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية، ودرة ديوان شعر المديح في الإسلام، الذي جادت به قرائح الشعراء على مر العصور ومطلعها من أبرع مطالع القصائد العربية، ومطلع القصيدة:
محمد سيد الكونين والثقليـ
ـن والفريقين من عرب ومن عجمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ
أبر في قولِ لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
لكل هولٍ من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبلٍ غير منفصم
فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلُقٍ
ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ
غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ
وواقفون لديه عند حدهم
من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
فهو الذي تم معناه وصورته
ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسم
منزهٌ عن شريكٍ في محاسنه
فجوهر الحسن فيه غير منقسم
دع ما ادعثه النصارى في نبيهم
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له
حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفم
نهج البردة
قصيدة نهج البردة من أجمل قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي، وتعد من أروع قصائد المدح النبوي، لبساطة الكلمات وعذوبة الألفاظ كما أنها سهلة الشرح والفهم، لهذا أردنا هنا أن نسلط الضوء على هذه القصيدة الرائعة:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً
يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
لمّا رنا حدّثتني النفس قائلةً
يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
جحدتها وكتمت السهم في كبدي
جرح الأحبّة عندي غير ذي ألم
رزقت أسمح ما في الناس من خلق
إذا رزقت التماس العذر في الشيم
يا لائمي في هواه والهوى قدر
لو شفّك الوجد لم تعذل ولم تلم
وقصيدة أخرى في مدح الرسول الكريم:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ
لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ
وَالـعَـرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي
وَالـمُـنـتَـهى وَالسِدرَةُ العَصماءُ
وَحَـديـقَـةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا
بِـالـتُـرجُـمـ انِ شَـذِيَّةٌ غَنّاءُ
وَالـوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ
وَالـلَـوحُ وَالـقَـلَـمُ البَديعُ رُواءُ
نُـظِمَت أَسامي الرُسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ
فـي الـلَـوحِ وَاِسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ
تطور قصائد المديح النبوي
وتعود أشعار المديح النبوي إلى بداية الدعوة الإسلامية مع قصيدة “طلع البدر علينا”، وقصائد شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير صاحب اللامية المشهورة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبـول
متيم إثرها لم يفـد مكبـول
وقد استحقت هذه القصيدة المدحية المباركة أن تسمى بالبردة النبوية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كسا صاحبها ببردة مطهرة تكريما لكعب بن زهير وتشجيعا للشعر الإسلامي الملتزم الذي ينافح عن الحق وينصر الإسلام وينشر الدين الرباني.
ومن أهم شعراء المديح النبوي في العصر الأموي الفرزدق ولاسيما في قصيدته الرائعة الميمية التي نوه فيها بآل البيت واستعرض سمو أخلاق النبي الكريم وفضائله الرائعة، ويقول في مطلع القصيدة:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيـت يعرفه والحل والحـرم
وقد ارتبط مدح النبي صلى الله عليه وسلم بمدح أهل البيت وتعداد مناقب بني هاشم وأبناء فاطمة كما وجدنا ذلك عند الفرزدق والشاعر الشيعي الكميت الذي قال في بائيته:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني وذو الشوق يلعب
ويندرج ضمن هذا النوع من المدح تائية الشاعر الشيعي دعبل الخزاعي التي مدح فيها أهل البيت قائلا في مطلعها:
مدارس آيات خلـت من تلاوة
ومنزل حي مقفـر العرصات
ويذهب الشريف الرضي مذهب التصوف في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر مناقب أهل البيت وخاصة أبناء فاطمة الذين رفعهم الشاعر إلى مرتبة كبيرة من التقوى والمجد والسؤدد كما في داليته:
شغل الدموع عن الديار بكاؤنا لبكاء فاطمـة على أولادها
ويقول أيضا في لاميته الزهدية المشهورة التي مطلعها:
راجل أنـت والليالي نزول ومضر بك البقـاء الطويـل
وقد كان الشعراء المغاربة سباقين إلى الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ونظم الكثير من القصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وتعداد مناقبه الفاضلة وذكر صفاته الحميدة وذكر سيرته النبوية الشريفة وذكر الأمكنة المقدسة التي وطئها نبينا المحبوب.
ومن أهم الشعراء المغاربة الذين اشتهروا بالمديح النبوي نستحضر مالك بن المرحل كما في ميميته المشهورة التي يعارض فيها قصيدة البوصيري الميمية:
شوق كما رفعت نار على علم
تشب بين فروع الضال والسلـم
بشرى النبوة
وقد برع الشاعر الكبير عبدالله الردوني في وصف مولد النور وقال:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار
وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذى سحراً
وأعلنت في الربى ميلاد أنوار
وشقت الصمت والأنسام تحملها
تحت السكينة من دارٍ إلى دار
وهدهدت “مكة” الوسنى أناملها
وهزت الفجر إيذاناً بإسفار
* * *
فأقبل الفجر من خلف التلال وفي
عينيه أسرار عشاقٍ وسمار
كأن فيض السنى في كل رابيةٍ
موجٌ وفي كل سفحٍ جدولٌ جاري
تدافع الفجر في الدنيا يزف إلى
تاريخها فجر أجيالٍ وأدهار
واستقبل الفتح طفلاً في تبسمه
آيات بشرى وإيماءات إنذار
وشب طفل الهدى المنشود متزراً
بالحق متشحاً بالنور والنار
في كفه شعلةٌ تهدي وفي فمه
بشرى وفي عينه إصرار أقدار
وفي ملامحه وعدٌ وفي دمه
بطولة تتحدى كل جبار
يتضح لنا أن المديح النّبويّ غرض شعري قديم متجدّد جوهره الثّناء والشّكر والتّنويه بمناقب خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وصفاته وأخلاقه وسلوكاته، ويستوحي مادته الإبداعية من منظور ديني بحت.

قد يعجبك ايضا