أمريكا.. النازية التي لم تُحاكَم

د. محمد الصاوي *

 

 

محكمة نورمبرغ (1945–1946) كانت أول تجربة للعدالة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جرت محاكمة قادة النازية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، في سابقة أرست مبادئ القانون الدولي الجنائي.
لكن، تخيّلوا لو أعيد فتح قاعة شبيهة اليوم، المقاعد هذه المرة محجوزة لزعماء البيت الأبيض: ترومان، نيكسون، ريغان، بوش، أوباما، ترامب، وبايدن.
لائحة اتهام مكتوبة بالدم، لا بالحبر، تضم ملايين الضحايا من هيروشيما حتى غزة. هذه ليست مبالغة، بل قراءة نعوم تشومسكي نفسه: لو طُبّقت مبادئ نورمبرغ بصرامة، لكان كل رئيس أميركي بعد الحرب العالمية الثانية مجرم حرب مدانًا يستحق المشانق.
ترومان: البداية بالنار النووية
في أغسطس 1945 ألقى الرئيس هاري ترومان قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي. النتيجة: أكثر من 150 ألف قتيل مدني حتى نهاية العام نفسه.
“جريمة ضد الإنسانية بحجم أسطوري افتتحت العصر الأميركي.”
فيتنام وكمبوديا: مذابح القرن العشرين
بين جونسون ونيكسون (1964–1974) تحولت فيتنام وكمبوديا ولاوس إلى ساحات نار. قُتل بين 1 و2 مليون مدني فيتنامي. عشرات الآلاف في كمبوديا سقطوا تحت قصف عشوائي غير مسبوق.
ريغان: رئيس أدانته العدالة الدولية
في الثمانينيات دعم رونالد ريغان “الكونترا” في نيكاراغوا، بعمليات اغتيال وتخريب. محكمة العدل الدولية نفسها أدانت الولايات المتحدة عام 1986 بتهمة “العدوان”، وقالت:
“الولايات المتحدة انتهكت القانون الدولي بدعمها القوة المسلحة في نيكاراغوا، وعليها دفع تعويضات.
بوش الأب: بنما والعراق
بنما 1989: ما بين 300 و3000 مدني قُتلوا في غزو استمر أيامًا. العراق 1991: آلاف الضحايا في قصف الملجأ ومجازر طريق الموت.
“الدماء كانت تذكرة عبور أمريكا إلى نظام عالمي جديد.”
كلينتون: يوغسلافيا تحت القصف
في 1999 شنّ الناتو بقيادة بيل كلينتون حملة جوية على يوغسلافيا بلا تفويض أممي صريح. هيومن رايتس ووتش وثّقت 500 مدني قتيل في 90 حادثة موثقة.
بوش الابن: الكارثة المزدوجة
العراق 2003: أكثر من 200 ألف مدني موثّقين بالاسم والحادث، مع تقديرات تصل إلى مئات الآلاف. أفغانستان: نحو 46 ألف مدني قُتلوا مباشرة، إلى جانب ملايين المشرّدين.
“لو حوكم بوش وفق نورمبرغ لكان في المشنقة.” — نعوم تشومسكي
أوباما: رئيس الطائرات المسيّرة
بين باكستان واليمن والصومال، تحوّلت السماء إلى مسرح للاغتيالات عن بُعد. عشرات الغارات أودت بحياة مئات المدنيين، كثير منهم أطفال.
ترامب وبايدن: من الموصل إلى غزة
ترامب (2017): الموصل والرقة تحولت إلى أنقاض، آلاف الضحايا المدنيين سقطوا تحت شعار “الحرب على داعش”. بايدن (2023–2025): الدعم المفتوح لإسرائيل في حرب غزة التي حصدت أكثر من 60 ألف شهيد فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال.
“غزة اليوم هي هيروشيما العصر الرقمي.”
مقارنة صادمة: أمريكا قتلت أكثر من هتلر
إذا جمعنا حصيلة الضحايا المدنيين منذ 1945 في الحروب الأميركية: فيتنام، كمبوديا، العراق، أفغانستان، بنما، يوغسلافيا، غزة… فإن الرقم يتجاوز عدة ملايين.
بالمقابل، ضحايا النازية في أوروبا من المدنيين قُدّروا بنحو 5.7 مليون يهودي، وحوالي 10 ملايين آخرين.
لكن الفارق أن النازية سقطت وحوكم قادتها، بينما ظلّت واشنطن تُعيد إنتاج جرائمها بلا حساب.
الصمت الدولي: محكمة معكوسة
في نورمبرغ 1945 جلس قادة النازية في قفص الاتهام، بينما المنتصرون تربعوا على منصة القضاة.
أما اليوم، فقد انقلب المشهد: الولايات المتحدة، أكبر منتهك لمبادئ نورمبرغ، نصّبت نفسها شرطي العالم وقاضيه.
من مجلس الأمن إلى المحاكم الدولية، يتحول الضحايا إلى أرقام صامتة، فيما تبقى واشنطن بمنأى عن أي مساءلة.
إنها محكمة معكوسة: الجلاد يضع القوانين، والضحايا يُتَّهمون بالإرهاب إن صرخوا.
بين نورمبرغ والفقه الإسلامي
مبادئ نورمبرغ حرّمت العدوان وقتل المدنيين، والفقه الإسلامي سبقها بقرون:
“لا تقتلوا النساء ولا الأطفال ولا الشيوخ… ولا تُهلكوا الحرث والنسل.”
لكن البيت الأبيض حوّل هذه المبادئ إلى حبر على ورق، واستباح أرواح الملايين بحجج واهية.
مشانق مؤجَّلة
من هيروشيما إلى غزة، كل رئيس أميركي يترك خلفه مقابر جماعية وأوطانًا مدمرة. إنهم سفاحون في بزّات أنيقة، ومصّاصو دماء بربطات عنق حريرية.
لو عُقدت محكمة دولية حقيقية، لاصطفّوا واحدًا تلو الآخر في قفص الاتهام، من ترومان إلى بايدن، أمام ملايين الأرواح التي أُزهقت بلا ذنب.
هل ستظل العدالة رهينة ميزان القوة؟
وهل يبقى دماء الملايين مجرد “تفاصيل” في أرشيف البيت الأبيض.

* باحث في العلاقات الدولية

قد يعجبك ايضا