ستارلينك… البوابة الخلفية لاختراق السيادة اليمنية وتقويض أمنها القومي

عبدالحافظ معجب

 

في السنوات الأخيرة، شهد الفضاء السيبراني العالمي طفرة تقنية تمثّلت في شبكات الإنترنت الفضائي منخفض المدار، وفي مقدمتها مشروع “ستارلينك” الأمريكي الذي اكتسب شهرة عالمية بفضل قدرته على توفير اتصال سريع بالإنترنت في أي مكان على سطح الأرض تقريباً.

غير أن هذه التقنية، التي تبدو في ظاهرها تقدماً علمياً، تخفي وراءها أبعاداً أمنية واستراتيجية بالغة الخطورة، خصوصاً في بيئات النزاع والدول التي تواجه تحديات سيادية وأمنية، مثل اليمن.

انتشار تجهيزات “ستارلينك” في بعض المناطق اليمنية، خاصة بعد أن قامت سلطات «المرتزقة» وحكومة «الفنادق» في عدن بترخيصها وتوفيرها عبر نقاط بيع في المحافظات المحتلة، فتح الباب أمام تهريبها إلى المحافظات الحرة، ما شكّل تهديداً مركّباً يتجاوز حدود التقنية إلى عمق الأمن القومي اليمني. فهذه الأجهزة، التي لا تمر بياناتها عبر البوابة الدولية اليمنية، تمثل عملياً شبكة اتصالات أجنبية مستقلة عن منظومة الاتصالات الوطنية، وهو ما يجعلها بيئة مثالية لعمليات التجسس ونقل البيانات الحساسة دون رقابة أو تتبع من الجهات المختصة.

خطورة “ستارلينك” لا تكمن فقط في تجاوزها للسيادة الوطنية، بل في كونها أداة متقدمة يمكن استغلالها لخدمة أهداف استخباراتية معادية. فهي تمنح أي مستخدم قناة اتصال مباشرة مع شبكة خارجية تخضع لسيطرة الولايات المتحدة، ما يفتح المجال أمام تمرير محتوى موجه، وتغذية حملات التضليل، وجمع المعلومات الاستخباراتية الدقيقة من داخل الأراضي اليمنية. وفي سياق الحرب المفروضة على اليمن، تصبح هذه القناة أداة دعم لوجستي وتقني للأنشطة العدائية، سواء كانت عمليات تجسسية أو تنسيقية بين خلايا التخريب والجهات الاستخباراتية الأجنبية.

الأبعاد الاقتصادية لهذه الظاهرة لا تقل خطورة عن أبعادها الأمنية. فكل اتصال يتم عبر “ستارلينك” يعني خسارة مباشرة للاقتصاد الوطني، سواء عبر فقدان إيرادات الرسوم والضرائب المستحقة على خدمات الاتصالات، أو من خلال الإضرار بحصة الشبكات الوطنية في السوق. وبذلك، يتحول المستخدم المحلي لهذه الخدمة من داعم للاقتصاد الوطني إلى مساهم – ربما دون وعي – في دعم اقتصاد دول العدوان، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

تتعدد الأجيال التي طورتها الشركة، بدءاً من “الطبق الدائري” للجيل الأول، مروراً بالجيلين الثاني والثالث ذوي التصاميم المستطيلة، وصولاً إلى نسخة “ستارلينك ميني” المحمولة. هذا التنوع في الأحجام والتقنيات يزيد من خطورة التهريب والاستخدام غير المشروع، إذ يتيح خيارات متعددة تناسب مختلف الظروف والاحتياجات، بما في ذلك الاستخدامات الميدانية المتحركة التي قد تخدم أغراضاً عسكرية أو استخباراتية.

من الناحية التقنية، تمثل “ستارلينك” قناة اتصال مشفرة لا تمر عبر البنية التحتية المحلية، ما يعني أن كل البيانات المتبادلة – من مكالمات ورسائل وصور وفيديوهات وملفات – تنتقل مباشرة إلى الخارج، حيث يمكن تحليلها واستخدامها لأغراض متعددة. وبما أن هذه الشبكة لا تخضع لسلطة تنظيمية يمنية، فإنها توفر بيئة آمنة تماماً لأي جهة تسعى إلى تنفيذ أنشطة خارج إطار القانون، سواء كانت عمليات تهريب، أو اتصالات سرية، أو تنسيق بين عناصر تعمل ضد مصلحة اليمن.

يُضاف إلى ذلك أن استخدام هذه التقنية يشكل خرقاً للقوانين الوطنية المنظمة لاستخدام الطيف الترددي، وانتهاكاً لحقوق السيادة على المدارات الساتلية والأجواء الفضائية للجمهورية اليمنية. كما أن حيازة وتشغيل معدات اتصالات مربوطة بشبكات أجنبية دون ترخيص، يدخل في نطاق الجرائم الموصوفة قانونياً كأعمال تخابر، ما يجعل من حائزيها ومستخدميها عرضة للمساءلة والعقوبات.

على المستوى الأمني، تُعد هذه المحطات وسيلة أساسية لتهريب المكالمات الدولية، وهو نشاط لطالما اعتبر من أخطر المهددات للاتصالات الوطنية، ليس فقط لأنه يحرم الدولة من موارد مالية مستحقة، بل لأنه يفتح الباب أمام استخدام هذه المكالمات في التنسيق بين الأطراف المعادية والخلايا التخريبية. وفي بيئة الصراع المعقدة التي يشهدها اليمن، فإن توفير وسيلة اتصال آمنة وسرية كهذه لأي طرف معادٍ يعادل توفير سلاح استراتيجي بيده.

التجربة اليمنية مع “ستارلينك” تكشف عن مفارقة لافتة: فبينما تُسوّق هذه التقنية عالمياً كأداة لربط المجتمعات النائية بالإنترنت، فإنها في الواقع تتحول، في ظروف الحرب والحصار، إلى أداة اختراق تمس جوهر الأمن القومي، وتستهدف سيادة القرار اليمني. ولعل ما يزيد من تعقيد الموقف أن هذه التقنية لا يمكن بسهولة اكتشاف أو مراقبة أنشطتها من قبل السلطات الوطنية، ما يفرض تحديات إضافية على أجهزة الأمن والمخابرات. إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب وعياً مجتمعياً بمخاطرها، وتعاوناً كاملاً بين المواطنين والجهات الأمنية، إذ أن حيازة هذه الأجهزة ليست مسألة تقنية فحسب، بل هي قرار سياسي وأمني واقتصادي في آن واحد. كما أن استبدال هذه القنوات غير الوطنية بخدمات إنترنت وطنية آمنة وموثوقة يمثل خطوة أساسية في تحصين الجبهة الداخلية، وحماية البيانات الوطنية، وضمان بقاء الاتصالات تحت السيادة اليمنية.

وفي المحصلة، فإن “ستارلينك” ليست مجرد طبق لاقط أو وسيلة اتصال حديثة، بل هي، في سياق الصراع اليمني، أداة يمكن أن تعيد تشكيل خريطة الأمن والمعلومات في البلاد. والوعي بهذه الحقيقة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع انتشارها، هو جزء من معركة أوسع يخوضها اليمن دفاعاً عن سيادته وحقه في استقلال قراره الاتصالي، بعيداً عن الهيمنة الأجنبية وأدواتها المستترة.

قد يعجبك ايضا