اليوم نحن نعيش واقعا جديدا شئنا أم أبينا، فالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تسير وفق أهوائنا وطموحاتنا ولكنها اليوم تصنع عكس مجرى التاريخ وقانونه، الإنسان المعاصر امتلك من العلوم والمعارف ما لم يمتلكه الإنسان القديم الذي كان يدير شأنه العام بما يتوفر له من معارف وكانت الأخلاق هي المعيار العام في ذلك، أما اليوم فكل شيء في حياتنا أصبح مصنوعا، فالمعرفة هي من تدير الشأن العام .
ما يحدث في وطننا العربي منذ عام 2007م إلى اليوم لم يكن حركة اجتماعية رافضة للواقع وباحثة عن الأفضل بقدر ما كانت حركة مصنوعة تهدف لبلوغ غايات وأهداف بدليل أن الواقع تراجع إلى الخلف، ونتائج الواقع نتائج غير مرضية، إذ لم يشهد الواقع تطورا ملحوظا في الحياة ولا في المفاهيم، ولكننا شهدنا تفكيكا لمفهوم الدولة ولمفهوم الوطن، وقد كانت الغاية من كل حركة الاضطرابات التي شهدتها الدول المستهدفة مثل سوريا، والعراق، وليبيا، والسودان، هي فصل فكرة الدولة – ككيان سياسي جامع وناظم من خلال مصفوفة التشريعات والقوانين والدساتير ومن خلال المؤسسات الدستورية التي تشكل بعدا نفسيا مستقرا ومطمئنا للجماعات والكيانات والأحزاب والنخب – عن البعد الاجتماعي، حيث يعتبر البعد الاجتماعي ركنا أساسيا من أركان الدولة، وحين ينهار هذا البعد تنهار الدولة، فالعلاقة هنا علاقة تلازم واحتياج، وضرورة، فالمجتمع متعدد، وكل كيان فيه يشعر بالخوف من غيره من الكيانات التي تماثله، وحين تضطرب حركة الواقع تحتمي الكيانات بالجغرافيا وبالتاريخ وبالتجانس الثقافي، وبذلك تتجزأ الهوية الكلية الجامعة، وتصبح هويات متنازعة ومتناحرة ومتصارعة – يمكن قراءة ما يحدث في سوريا بين نظام الشرع والدروز كمثال – وعند هذه النقطة تبدأ فكرة الوطن بالتلاشي ليضيق المفهوم العام للوطن ليصبح عدما، ينعكس هذا على الوجدان العام فيجد جيل الشباب نفسه ضائعا وباحثا عن نفسه في الهجرة كملاذ وحيد للشعور بالوجود، وهذا أمر ندركه ونقرأ تفاصيله في الدول التي أصابتها موجة الربيع العربي، وقد ترك ذلك أثرا مباشرا وغير مباشر على قضايا الأمة المصيرية مثل قضية فلسطين، وموقفا غير موحد مما يحدث في غزة، بعكس العقود الخوالي حين كانت الدولة حاضرة، والمجتمع موحدا تحت رايتها وعلمها .
بقراءة قصيرة تحليلية مثلا للتعليقات التي تصاحب بعض منشورات السياسيين نجد كل معلق مثلا لا يبحث إلا عن مصالحه كفرد ضاربا عرض الحائط كل التفاصيل المهمة في القضية، أو الفكرة، أو في الموقف، فالفرد في مثل هذه الحالة يبحث عن مصلحته فقط، وهو يعبر بكل وضوح عن عدم قدرته على التضحية من أجل الأمة والوطن، وتلك نتيجة طبيعية لاختلال العلاقة بين المجتمع والدولة، وهي ثغرة إذا لم نقرأ رسائلها بدقة وتمعن نجد أنفسنا خارج سرب الحياة، وبالتالي يجد العدو نفسه قد حقق هدفه من تفكيك مفهوم الدولة، ومفهوم الوطن حتى يصبح العرب أمة غير منتظمة تشكل خطرا على الحضارة الإنسانية المعاصرة ولا بد من عودة احتلالهم، هذا الهدف معلن وليس جديدا، وهو يقول : ” سنصنع لهم إسلاما يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية ومن بعدها قادمون للزحف وسننتصر”. (رئيس وكالة المخابرات الأمريكية) .
ويقول برنارد لويس في مقابلة : ” إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم، وإذا تُركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات وتقوض المجتمعات، ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفى حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربتين البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة لتجنب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان.
إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعى لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك «إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا»، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع أن تقوم أمريكا بالضغط على قيادتهم- دون مجاملة ولا لين ولا هوادة- ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها.” المصدر (وكالة الإعلام مع «لويس»، في 20- 5- 2005،) .- وبرنارد لويس لمن لا يعرفه هو فيلسوف يهودي أمريكي، وهو صاحب نظرية الفوضى الخلاقة وصاحب خطة تقسيم الشرق الأوسط وكان أحد دعاة الحرب على العراق وأحد المؤثرين في السياسة الأمريكية) .
وخلال سالف الأيام أعلن نتنياهو رئيس وزراء الكيان الغاصب أنه يحمل رسالة تاريخية وروحانية وأنه ماض في تحقيق الحلم الذي تتوارثه الأجيال في تحقيق دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات وكشف عن أبعادها في خريطة معدة وقد سبق لي تناول هذه الفكرة في أكثر من مقال وبيانها بشكل كامل قبل أشهر ومن قبل سنوات أيضا.
وإعلان نتنياهو جاء في مرحلة وصل العرب أو أكثر العرب إلى مرحلة اللادولة، ويبدو أنه كان مطمئنا جدا لبلوغ الغاية التي بدأت مقدماتها منذ وقت مبكر، وهو اليوم يجني نتائجها ويعلن دون خوف من أحد، فالدول التي كان يتوقع الخطر منها تلاشت وتنازعت واضطربت وسوف يسهل عليه ابتلاع الدول المتبقية لأنه يتأبطها اليوم من خلال التماهي مع مشروعه .