خليل المعلمي
تزخر بلادنا بالتراث الثقافي المتنوع والمتميز والذي يحمل في طياته حضارة الشعب اليمني منذ آلاف السنين حتى وقتنا الحالي.
التراث اللامادي في اليمن يشمل العادات والتقاليد والأغاني والفنون الشعبية والمعتقدات التي تشكل هوية المجتمع اليمني، يشهد هذا التراث إهمالاً وتراجعاً، مما يهدد باندثاره، على الرغم من أن اليمن تمتلك ثروة من التراث اللامادي، إلا أن هناك نقصاً في المراجع التي توثقه وتحفظه للأجيال القادمة.
ويعتبر التراث اللامادي شكل من أشكال التعبير الثقافي التي تتوارثه الأجيال، فهو امتداد معرفي ووجودي، وحضاري، يعبر من خلاله الإنسان عن نفسه، ويفصح عن كينونته وانتمائه، ويعتبر سمة بارزة، وإرثاً حضارياً مهماً، ومن خلاله نستطيع معرف مجمل العلاقات الاجتماعية وأبعادها المختلفة، وما تحمله في عمقها من رسائل ودلالات، وما تفصح عنه من انتماء، وجذور.
والملاحظ أن اليمن من أكثر البلدان ثراء في هذا المجال، فهناك الرقص المتنوع والخاص بكل منطقة ومحافظة ويختلف باختلاف المنطقة ويعبر عن هوية وخصوصية يمنية عامة ويعبر عن الهوية الخاصة لكل منطقة، ويعكس ذائقة نفسية ورؤية أيضا فكرية، وكأن الجسد في حالة حوار مع عالمه الخاص ومن حوله فضلاً عن الالتزام القيمي والأخلاقي للمجتمع.
وهناك المهاجل الزراعية التي لا يزال المزارعون يرددونها أثناء أعمالهم في الزراعة عند بذر البذور وعند رعاية المحاصيل وعند الحصاد أيضاً ولكل حالة نصوصها الخاصة بها، وهذه تحتاج إلى تدوين من الاندثار وحفظها للأجيال القادمة.
والتراث اللامادي هو خلاصة آلاف السنين من التراكم الحضاري، وأفصح من كتب التاريخ، لأنه يشكّل وعي الأجيال، ويغذّي الانتماء، ويقاوم محاولات التذويب الثقافي، وفي حكاياته يكمن دليلنا إلى ذواتنا، وفي رموزه تكمن مفاتيح الوعي في الذاكرة المشتركة.
ويمثل أيضاً سجل حي يحمل قيم الشعوب وجماليات وجودها، ويجسد حكمة الأجداد، ويعبّر عن رؤيتهم للحياة والجمال، وللألم والأمل، ويتمثل في الزامل، البرع، الأمثال، المعتقدات، الحِرف والمهن اليدوية، والحكايات الشفهية، وغيرها، والتي لم تُدوَّن في الغالب، لكنها ترسّخت عميقاً في الوعي الجمعي.
وتكمن أهمية التراث اللامادي في بلادنا بحسب رأي الكثير من الباحثين والمهتمين في كونه ليس مجرد ماضٍ نرثيه، بل حاضراً نعيشه، ومرآةً لفهم ذواتنا، وأداةً لبناء توازننا الاجتماعي والروحي. وانطلاقاً من ذلك، فهو وعاءُ الحكمة الشعبية، ومدونةُ القيم، ولغةُ التعبير عن الفرح والحزن، وعن الاحتجاج والانتماء.
فمثلاً نجد أن الأغنية الشعبية ليست مجرد لحن عابر، بل هي تاريخ يُغنّى، والحكاية التقليدية ليست سرداً عابراً للترفيه، بل هي فلسفة مشفّرة تحمل رؤيتنا للحياة، وتكشف عن عمق الخيال الشعبي الذي صنعها.
والأمم التي تُفرّط في تراثها اللامادي تُفرّط في لغتها السرية التي تتحدث بها إلى الزمن، وتخسر بوصلة وجودها، وبلادنا أحوج ما تكون إلى الإصغاء لنداء روحها، خاصة وهي تمر اليوم في أتون مخاضات قاسية، فتراثها الثقافي لم يعد مجرّد ماضٍ يُستعاد، بل هو الصدى الأخير لصوتها حين يعلو الضجيج، والدليل الخافت حين تتداخل المسارات وتضيع الاتجاهات.
كما أن التراث اللامادي في اليمن ليس مجرد فلكلور أو ترفٍ جمالي، بل هو الشيفرة الوراثية لهويتنا الجمعية، والامتداد الوجداني العابر للأجيال، وهو البوصلة التي تهدينا إلى جذورنا وسط عواصف التغريب والانجراف الثقافي.
فمن الزوامل، والأهازيج الزراعية، والأمثال الشعبية، إلى الرقصات مثل البرع والشرح، إلى المعتقدات المرتبطة بالخصوبة والمطر، والحكم الزراعية التي جرت على ألسنة الحكيمَين: علي ولد زايد والحميد بن منصور، كلها ليست تقاليد عابرة، بل أنساق معرفية، وأركان ثقافية، وأدوات تماسك اجتماعي.
ونستطيع القول ونؤكد أن هذا التراث قابل لإعادة التوظيف كمورد اقتصادي ضمن الصناعات الثقافية، ومنصة لتعزيز السياحة المستدامة، ومصدر إلهام للموسيقى، والدراما، والسينما، وصناعات المحتوى المعاصر.
إن هذا التنوع في التراث اللامادي يعكس غنى الحضارة اليمنية وعراقتها، ويشير إلى قدرة الشعب اليمني على التكيف والابتكار، كما يعكس هذا التراث قيماً ومبادئ مهمة، مثل التضامن الاجتماعي، والاحترام للآخرين، والارتباط بالطبيعة.
وبقدر هذا التنوع الواسع والثراء الحضاري التراكمي لمشهد التراث الثقافي اللامادي في اليمن، فإن هذا الموروث يواجه تحديات جمة، تبدأ من استحالة الحصول على حجم الإمكانات المادية والتمويلات الجديرة بالإحاطة والتوثيق الشامل لهذا التنوع، ومروراً بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، التي تؤدي إلى تغير القيم والعادات التقليدية، قبل ان توثق كموروث، وكذلك التأثيرات الخارجية التي تؤدي إلى انتشار ثقافات غربية وتقليدية جديدة، ناهيك عن الاهمال الناتج عن غياب التخطيط التنموي، وغياب البرامج الثقافية والفعل الثقافي، فتغيب مع ذلك وبالتدريج بعض الممارسات والفنون التي تعكس التراث الثقافي.
إن حماية التراث بكافة أنواعه ليست مهمة وزارة أو جهة رسمية فقط، بل مشروع وطني تبدأ خيوطه من البيت، إلى المدرسة، إلى الإعلام، إلى الجامعة، إلى المجتمع المدني، حتى تتجذر قناعة أن ما نملكه من تراث، هو أغلى من أن يُهمل، وأعمق من أن يُختزل.
وفي زمن التمزق المجتمعي وتعدد الولاءات، يصبح التراث اللامادي صمام أمان للهوية الوطنية الجامعة، ومادة التماسك في زمن التشظي، وإن لم نحتفظ بتراثنا، فإننا نفرّط بجذورنا، وإن لم نحفظ جذورنا، فلا يُرجى لغصنٍ أن يورق في غدٍ موحش.
أيضاً يمكن دمج مفردات ومواد وفنون التراث الثقافي اللامادِّي في المناهج الدراسية، لتنحفر في أذهان أجيالنا ثقافتنا، فتكون حصناً من الذوبان، وتعزز من اهتمامها بهذا التراث الثقافي المادي واللامادِّي، فتنقله للأجيال التي تليها، بجاذبيته وجماله وبذلك نحافظ على خصوصيتنا، من الذوبان في الثقافات العالمية الوافدة، سواءً كانت مغرضةً أو بريئة.
وتبعا لتلك التحديات، فإن الحفاظ على هذا التراث الثقافي اللامادي المتنوع يتطلب توثيق أشكاله وأنواعه من خلال التسجيلات الصوتية والمرئية، والكتابة، والتصوير، كما يمكن تعليم الشباب عن التراث اللامادي وتشجيعهم على المشاركة في الفعاليات الثقافية، وكذلك ترويج التراث اللامادي من خلال الفعاليات الثقافية، والمعارض، والمواقع الإلكترونية، ومن المهم الاستفادة من التكنولوجيا، لتوثيق ونشر التراث اللامادي، مثل إنشاء مواقع إلكترونية وتطبيقات الهاتف المحمول.
والمسؤولية مشتركة في مهمة حفظ التراث الثقافي اللامادي، تقع في المقام الأول على عاتق أجهزة الدولة المختصة كوزارات الثقافة والسياحة والتعليم والشباب والرياضة والاعلام، وكذلك الهيئات والصناديق كصندوق التراث، وصندوق النشء والشباب وغيره، وهذه الجهات معنية بتوفير الدعم المالي والمعنوي للفعاليات الثقافية وتشجيع البحث العلمي في مضمار توثيق التراث اللامادي وتعزيز الوعي بأهمية تكريسه في مختلف الفعاليات.
كما أن مسؤولية صون التراث الثقافي اللامادي تتجاوز الجهات المختصة إلى منظمات المجتمع المدني من تنظيم الفعاليات الثقافية والمناسبات التي تعزز التراث اللامادي، توفير الدعم للفنانين والحرفيين التقليديين، وتشجيع المشاركة المجتمعية، كما يقع على عاتق المواطن مسؤولية المشاركة في الفعاليات الثقافية والمناسبات التي تعزز الهوية الثقافية اليمنية وتعليم الأبناء وتشجيعهم على المشاركة في الفعاليات الثقافية والحفاظ على الممارسات والفنون التقليدية في الحياة اليومية.