قاطرة رابعة للسلام تنطلق لكن وسط حقل ألغام: عملية السلام بين تركيا والأكراد.. طي للصراع أم هروب من الأزمات؟

 

عندما اصطف العشرات من مقاتلي حزب العمال الكردستاني (PKK)لإحراق أسلحتهم في مراسم رمزية قرب السليمانية بشمال العراق كان ذلك رسالة عملية من الحزب الاستجابة لدعوة زعيمه المعتقل في تركيا عبد الله أوجلان بحل الحزب والقاء السلاح والانتقال للنضال الديموقراطي، استنادا لمفاوضات أفضت إلى توافق مبدئي بطي صفحة الصراع المستمر منذ 40 عاما، غير أن حالة التوجس بقت سائدة في المستوى السياسي حيال جدية الالتزام بمتطلبات عملية السلام.

تحليل / أبو بكر عبدالله

 

لم تمض سوى أشهر قليلة على دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان إلى حل الحزب والقاء السلاح والانتقال من مرحلة الكفاح المسلح إلى النضال المدني الديموقراطي حتى جاء قرار الحزب بخطوات عملية جسدتها الفعاليات الرمزية للمقاتلين الأكراد الذين شرعوا بفعاليات بتدمير أسلحتهم قبل التطبيق الكامل لقرار القاء السلاح الذي ينتظر خطوات سياسية وقانونية من جانب أنقرة تطوي حقبة صراع امتدت لأكثر من 40 عاما.

جاءت دعوة أوجلان الذي يقضي حكما مؤبّدا في سجن انفرادي بجزيرة معزولة بتركيا منذ العام 1999، بعد أشهر من مفاوضات غير معلنة قادها مسؤولون أتراك مع أوجلان وافضت إلى تعهدات من أنقرة باتخاذ خطوات قانونية وسياسية وأمنية يشرف عليها البرلمان لعملية سلام شامل تنهي حقبة العنف والتمييز العرقي وتتيح للأكراد الاندماج في المجتمع التركي وممارسة حقوقهم السياسية والثقافية.

وفي حين لم تُكشف حتى اليوم بنود اتفاق السلام، فإن تصريحات المستويات القيادية بشأن المفاوضات التي اجراها مسؤولون أتراك مع زعيم الحزب أوجلان، أفضت إلى توافقات تتيح للأكراد تشكيل حزب سياسي مدني مقرة في أنقرة لتمثيل المطالب الكردية عبر القنوات الديمقراطية، بالتزامن مع خطوات لنزع السلاح وتعزيز المصالحة الوطنية، والاندماج السياسي والاجتماعي والعسكري للأكراد ضمن هياكل الدولة والمجتمع.

ومعروف أن جذور الصراع بين تركيا وحزب العمال ارتبطت بعوامل سياسية واجتماعية وتاريخية معقدة، وفي مقدمها السياسات التركية ذات النزعة القومية المتطرفة التي ظهرت بقوة بعد تأسيس الدولة عام 1923 وتطورت إلى صراع مسلح أدى إلى سلسلة من الثورات الكردية تلاها تأسيس حزب العمال الكردستاني في عام 1978 برئاسة عبد الله أوجلان الذي تبني الكفاح المسلح لإنشاء دولة كردية مستقلة في جنوب شرق تركيا، ما فتح الباب لأطول حقبة صراع عرقي في تاريخ الدولة التركية.

ضغوطات وتحولات

بعد ثلاث محاولات فاشلة للسلام بين تركيا وحزب العمال، كان واضحا أن قرار أنقرة الاستجابة لمبادرة السلام الجديد جاء نتيجة إدراكها أنها فشلت خلال أربعة عقود من الصراع مع الحزب في إنهاء ما تسميه التهديد الكبير لأمنها القومي، وهو الفشل الذي تحول إلى هاجس أمني، في ظل المخاوف من أن تقود التحولات الإقليمية التي تشهدها المنطقة إلى تعقيدات تجعل من قدرة أنقرة على حسم هذا الملف بالقوة العسكرية أمرا مكلفا ومحفوفا بمخاطر قد تهدد مستقبل الدولة التركية.

وبدا أن الحكومة التركية، بتشجيع من القوى السياسية في البرلمان، قدمت هذه المرة تنازلات بنقلها ملف الصراع مع حزب العمال إلى البرلمان استجابة لمطالب زعيم الحزب عبد الله أوجلان بأن يكون البرلمان التركي الذي يمثل كافة الأطياف السياسية التركية المسؤول عن وضع الخطط والإشراف على متطلبات عملية السلام من النواحي السياسية والقانونية والأمنية.

تزامن ذلك مع إفساحها المجال لانخراط أكثر القوى السياسية الممثلة في البرلمان في عملية السلام الجديدة من خلال اللجنة البرلمانية المكلفة الإشراف على متطلبات عملية السلام، ناهيك عن قبولها مشاركة أطراف كردية في هذه اللجنة.

ويمكن القول إن الموقف التركي مع عملية السلام الجديدة كان مختلفا هذه المرة حيث تعاطت أنقرة مع هذه الخطوة بوصفها إنجازا سياسيا على أمل أن تشكل انعطافه تاريخية من شأنها أن تحصن تركيا داخليا، في ظل التحذيرات التي تتحدث عن تهديدات مصيرية تواجه تركيا ولا سيما في النزاع التاريخي مع الأكراد الذي تحول إلى معضلة حقيقية نتيجة عقود من التمييز القومي وخطاب الإقصاء والكراهية وسياسات التمييز وعدم المساواة بين مكونات المجتمع.

وبدا أن هناك ادراكاً بأن المعادلات السياسية والأمنية القديمة كانت مفيدة في مراحل المواجهة العسكرية لكنها تحولات اليوم إلى تهديد كبير للدولة التركية هو ما دفع أنقرة إلى اتخاذ خطوات إيجابية لإنهاء النزاع المسلح استباقاً لتحوّلات إقليمية يتوقع أنها لن تكون في مصلحة الدولة التركية في حال استمرت دوامة الصراع.

هذا الأمر عبّر عنه بوضوح الرئيس أردوغان مؤخرا عندما اعتبر قرار حل الحزب «نقطة تحول لا رجعة فيها» ووصفه إطلاق عملية السلام الجديدة مع حزب العمال بأنها مهمة لتعزز أمن البلاد وسلام المنطقة والأخوّة الأبدية لأبناء الجمهورية التركية» ناهيك عن تأكيده بأنه «مع خروج الإرهاب والعنف من المعادلة، ستُفتح أبواب مرحلة جديدة في كلّ المجالات، في مقدمتها تعزيز القدرات الديمقراطية للعمل السياسي».

وبالنسبة لحزب العمال، فقد كان واضحا أن قراره الانتقال من مرحلة الكفاح المسلح لمرحلة النضال السياسي الديموقراطي، جاء نتيجة تحولات سياسية وعسكرية، ضيقت أمامه الخيارات ودفعته إلى تبني مشروع سياسي جديد ينهي الصراع المسلح مع الدولة التركية، في ظل حالة الإنهاك التي وصل اليها مقاتلوه وتقلص نفوذه العسكري نتيجة العمليات العسكرية التركية على معظم قواعده في شمال العراق وسوريا، في ظل استمرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتصنيف الحزب كمنظمة إرهابية، وهو أمر زاد من الضغوط عليه في مقابل تعزيز موقف تركيا على المسرح الدولي.

يضاف لذلك أن القرار جاء نتيجة موضوعية لتحولات فكرية في أدبيات الحزب وأهدافه برزت في السنوات الأخيرة بتبني زعيمه عبد الله أوجلان أفكارا جديدة تميل للسلام والحل السياسي من خلال الكونفدرالية الديموقراطية بدلا من الدولة المستقلة وأخيرا التحول الفكري الأهم بإعلان الحزب استعداده التخلي الكامل عن «أيديولوجية الدولة القومية» التي جوبهت بأكبر موجة عنف تسجل خلال المئة سنة الماضية.

مخاوف متبادلة

الترحيب الكردي التركي بمبادرة السلام الجديدة لم يبدّد المخاوف الجانبين حول عدم توفر الظروف الموضوعية المواتية لنجاح عملية السلام في ظل الشكوك بإمكان توفر متطلباتها الأساسية، وفي المقدمة التطبيق العملي من جانب حزب العمال لقرار حل الحزب بأجنحته الداخلية وكذلك أجنحته الخارجية في العراق وسوريا وإيران وتسليم جميع أنواع الأسلحة والمواقع العسكرية التي يمتلكها والاندماج في الجيش التركي.

يشير الأتراك في ذلك إلى القوى المحسوبة على حزب العمال مثل حزب “الحياة الحرة” في إيران، و»وحدات حماية الشعب» في سوريا التي تُعد جزءا من «قوات سوريا الديمقراطية: المسيطرة على مناطق الشمال السوري وتدعو إلى اللامركزية أو الفيدرالية، فضلا عن «وحدات مقاومة سنجار» وغيرها من الجماعات المسلّحة المتمركزة داخل الأراضي العراقية.

ومن جانب الأكراد فهناك شكوك من إمكان قيام أنقرة بخطوات عملية تلبي متطلبات عملية السلام وفي المقدمة تعديل الدستور وبعض القوانين التركية وإصدار العفو العام عن عناصر وقيادات الحزب وإطلاق سراح الأف المعتقلين ومن بينهم زعيم الحزب عبد الله أوجلان، فضلا عن الخطوات القانونية والسياسية المطلوبة لإعادة دمج المقاتلين الاكراد في الجيش والمجتمع التركي والسماح لهم بالحفاظ على الهوية الكردية.

هذا التوجس ظهر إلى العلن في التصريحات التي أعقبت أعمال المؤتمر العام الذي عقده حزب العمال الكردستاني مؤخرا.

ورغم إعلان المؤتمر الاستجابة لشروط الدولة التركية في إطلاق عملية السلام، بمتطلبات والتزامات وصلت إلى حد حل الهياكل التنظيمية للحزب وإلقاء السلاح خلى البيان من أي إشارة لتسليم السلاح، كما لوحظ وجود حالة من الحذر والتحفظ في المواقف التي أعلنها العديد من قيادات الحزب تجاه استحقاقات القاء وتسليم السلاح، في ظل استمرار الوجود العسكري التركي في مناطق الأكراد بشمالي العراق.

ويشار في هذا السياق إلى عدم اتخاذ الحكومة التركية أي خطوات سياسية أو قانونية أو أمنية أو عسكرية لتلبية مطالب الكرد لتحقيق السلام، بما في ذلك الطلب الأول بتخفيف القيود أو الإفراج عن زعيم الحزب عبد الله اوجلان المعتقل في السجون التركية منذ العام 1999 وإطلاق سراح آلاف المعتقلين الكرد من السجون التركية، في حين أن «الآلية البرلمانية» التي اقترحها أوجلان للإشراف على متطلبات عملية السلام وإجراءات المصالحة الوطنية، لم تبدأ بعد ولا تزال أنقرة تدرس هذه الخطوات.

وبعيدا عن ذلك ثمة مخاوف ما إن كان الجانبان قادران فعلا على الانخراط بجدية في خطط عمل تعزز نجاح عملية سلام وتقود إلى تعايش مشترك يكسر حواجز عقود من البروبغاندا العتيدة التي مارسها الجانبان لغرس مفاهيم وقيم الدولة القومية وفكرها المتطرف الذي تلغي الآخر ويصادر حقوقه السياسية والقانونية والثقافية بل ويصادر حقه بالحياة.

خطوات معقدة

لا شك أن عملية السلام أن تمت وفق ما هو مخطط، فإن ذلك سيقلل إلى حد ما من العراقيل التي يتوقع أن تواجهها قاطرة السلام الحالية في حين لا يوجد أي ضمانات يمكن الركون عليها بشأن استعداد الطرفين تقديم تنازلات للمضي بقاطرة السلام.

والتحديات التي يتوقع أن تواجهها عملية السلام الجديدة كثيرة ومعقدة، يتصدرها قدرة حكومة اردوغان على إصدار العفو العام عن كل مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وتهيئة الأرضية الأمنية والقانونية لإعادة دمج المقاتلين في الجيش التركي ودمج المدنيين الأكراد في المجتمع التركي، وهي القضايا التي تتحفظ أنقرة عليها وتطالب بأن يشمل العفو فقط العناصر غير المتورطين بعمليات إرهابية.

غير بعيد عن ذلك الخطوات القانونية التي يمكن أن تقبل أنقرة بتنفيذها بما يتيح للدولة التركية الاعتراف بالهوية الكردية والسماح للأكراد بممارستها بحرية كاملة بما في ذلك تعليم اللغة الكردية وإفساح المجال لهم بالحفاظ على التراث الثقافي والفكري الكردي، وممارسة الأنشطة السياسية والثقافية بحرية، وأكثر من ذلك قدرة أنقرة على أحداث تغيير نوعي ملموس في الخطاب الإعلامي الذي لا يزال حتى اليوم ويروج لفكرة انتصار الأتراك على ما يمسيه «التهديد الإرهابي» المتمثل بحزب العمال الكردستاني.

وحتى اليوم تبدو تركيا حققت جزءا كبيرا من طموحاتها في عملية السلام الجارية ولا سيما في الخطوة المنتظر إكمالها لنزع سلاح حزب العمال وتدمير ترسانته المتوسطة والثقيلة بحلول العام القادم، بالتوازي مع تحقيق مطالبها بحل الهياكل التنظيمية للحزب وفصائله العسكرية في تركيا والعراق.

لكن الطموحات التركية لا تزال تواجه عراقيل من أكراد سوريا الذين أعلنوا استقلالهم عن أكراد العراق، وعدم انخراطهم في إجراءات حل الحزب وعدم تسليم السلاح الذي تديره قوات سوريا الديموقراطية لمواجهة تهديدات داخلية في سوريا.

يأتي ذلك بينما تصر الحكومة التركية على حل جميع الفصائل العسكرية التابعة للحزب في تركيا والعراق وسوريا، وقطع أي صلات إقليمية له، كما تشترط مراقبة مستقلة لعملية نزع السلاح وحقها في ما تسميه مكافحة الإرهاب.

ولا يخفي المسؤولون الأتراك قلقهم من عدم التزام جميع فصائل الحزب بنزع السلاح خاصة في سوريا التي ترى فيها تركيا امتدادا تنظيميا للحزب ولا سيما مع امتلاكه قوات ضاربة متمثلة بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تتحكم بجزء كبير من الأراضي السورية.

وهنا يتعين الإشارة إلى مبادرة السلام الأخيرة لا تزال هشة وعرضة للانهيار ونجاحها يبقى مرهونا بقدرة الطرفين على تقليص حالة انعدام الثقة التي أدت إلى فشل المبادرات السابقة، والعمل على تقديم التنازلات التي يمكن أن تمضي بالاتفاق قدما بما يجعل من هذه العملية قولا وفعلا «نقطة تحول».

 

 

قد يعجبك ايضا