لماذا التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي¿ وما هي مزاياه¿

 - تناولت في المقالة الأولى من هذه السلسلة أبعاد التحديات والصعوبات التي أدت إلى فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمتمثلة في برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري الذي تبنته الحكومات
د. يحيى بن يحيى المتوكل –

yyalmutawakel@yahoo.com
تناولت في المقالة الأولى من هذه السلسلة أبعاد التحديات والصعوبات التي أدت إلى فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمتمثلة في برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري الذي تبنته الحكومات اليمنية المتعاقبة منذ عام 1995م في إطار اقتصاد السوق الحر كما ناقشنا الحاجة إلى إعادة النظر في فلسفة اقتصاد السوق الحر لعجزها عن تحقيق الأهداف التنموية وعدم ملاءمتها للظروف الاقتصادية والاجتماعية في اليمن وضرورة التحول إلى منهج آخر خاصة بعد أن ساهم تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في السنين الأخيرة إلى تفجر الانتفاضات الشعبية. ونحاول في هذه المقالة إبراز فلسفة ومنهج اقتصاد السوق الاجتماعي مع بيان أسسه ومرتكزاته سواءٍ المتعلقة بمسئولية الدولة أو بيئة النشاط الاقتصادي أو المرتكزات الثقافية والإعلامية.
ويميل اقتصاد السوق الاجتماعي إلى الفكر الاقتصادي الكلاسيكي مع بعض التعديلات التي جعلته يْصنف كليبرالية جديدة تجمع بين الكلاسيكية الليبرالية وبين العناصر الإدارية والاجتماعية للدولة المتحكمة في الاقتصاد. ولا يركز هذا المنهج على الجوانب الاقتصادية فحسب وإنما يهتم أيضاٍ بالحرية والعدالة الاجتماعية بمعنى حرية شخصية في ظل مسئولية إجتماعية حيث تعتبر الحرية شرطاٍ لازماٍ لتمكين الفرد من تحمل المسؤولية.
وقد عاد اقتصاد السوق الاجتماعي يستقطب اهتماماٍ متزايداٍ من الباحثين وأصحاب القرار السياسي والاقتصادي على المستوى الإقليمي والعالمي بعد أن أدركت الدول أهمية الدور الذي يجب أن تقوم به للموازنة بين الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية. فهذا المنهج الذي يجمع بين دور الدولة الاقتصادي ودور القطاع الخاص لا يهتم بحرية الأسواق فحسب بل الأهم كفاءتها مع التأكيد على البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية واجراءاتها إذ يقود فشل الدولة في تأدية دورها الاقتصادي والاجتماعي إلى عدم استقرار سياسي فضلاٍ عن أن تحقيق التوازن بين الأدوار الاقتصادية والاجتماعية أمر مطلوب وهام لتوفير البيئة اللازمة للتنمية والاستثمار.
فعقب الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين أحدهما يتبنى اقتصاد السوق الراسمالي والآخر يعتمد التخطيط المركزي تسيطر الدولة فيه على الإنتاج وأدواته لم يبرز خيارَ آخر وإن كانت محاولات للجمع بين أفضل التطبيقات في المدرستين ظهرت على استحياء هنا وهناك. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي فرض النموذج الرأسمالي نفسه على الجميع رغم اختلاف التوجهات السياسية من بلد إلى آخر. وأصبح النقاش منذ ذلك الوقت يدور حول المقارنة بين النموذج الأكثر ليبرالية أو النموذج المحافظ. وعاد بروز اقتصاد السوق الاجتماعي كنظام مفتوح ومرن يمكن تعديله وفقاٍ للظروف في مختلف البلدان. فنظام اقتصاد السوق الاجتماعي لا يمثل نقطة ثابتة على مقياس الأنظمة الاقتصادية بل هو نطاق يتحرك إلى اليسار أو إلى اليمين وفقاٍ للاحتياجات والظروف. وتصبح أهم سمة لاقتصاد السوق الاجتماعي أنه نظام واحد يقدم كفاءة اقتصادية وعدالة اجتماعية وحماية بيئية.
ويعتبر العامل المشترك والحاسم بين حيثيات الاقتصاد الرأسمالي بشقيه الكلاسيكي الليبرالي والكينيزي وبين اقتصاد السوق الاجتماعي هو دور الدولة والذي إما أن يكون حيادياٍ كما نادت به الليبرالية أو تدخلياٍ وفعالاٍ كما رأت الكينيزية. والمقصود بالحيادية هنا هو حصر أنشطة الدولة في إستتاب الأمن وضمان حرية السوق وتشجيع الاستثمار والمنافسة والابتعاد عن ممارسة الأنشطة التجارية والانتاجية في حين تتولى قوى السوق تصحيح أية إختلالات خاصة ما يتعلق بالبطالة والتضخم. وفي الحالتين فإن الظروف الاقتصادية من كساد أو نمو تشكل المحدد الرئيسي لدور الدولة الاقتصادي الأمر الذي يجعل اقتصاد السوق الاجتماعي إجمالاٍ لا يبتعد كثيراٍ عن النظرية الرأسمالية الأم.
ويعود الفضل في نجاح الاقتصاديات التي تبنت اقتصاد السوق الاجتماعي في تحقيق الرفاه الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي وكذلك قدرتها على امتصاص الصدمات والأزمات الداخلية والخارجية إلى مجموعة المرتكزات والمقومات الفلسفية والقانونية والمؤسسية التي استند عليها بناؤها السياسي والاقتصادي والاجتماعي إذ لا بد من ارتكاز اقتصاد السوق الاجتماعي على دولة مؤسسات وسيادة القانون ونظام ديمقراطي يضمن توافق سياسي ومجتمعي يحافظ على حقوق ومصالح الفئات الاجتماعية المختلفة تجاه السياسات الاقتصادية والاجتماعية وخصوصاٍ الاتحادات والنقابات وأخيراٍ جدوى وفاعلية المشروعات الاقتصادية. وتعتبر الشراكة الاجتماعية بين النقابات ومؤسسات الأعمال عنصراٍ أساسياٍ لتنظيم سوق العمل وتفعيل ديناميكيات الاستثمار وإقامة المشاريع وتوفير معدلات توظيف عالية وكذلك تحقيق العدالة الاجتماعية والتي تمثل جميعها متطلبات لاقتصاد السوق الاجتماعي وإحدى مزاياه الكبيرة من خلال تحقيق نمو مستدام في إطار سياسات اجتماعية تعيد توزيع الثروة.
وتنقسم المقومات الأساسية الداعمة لاقتصاد السوق الاجتماعي إلى مقومات متعلقة بمسئولية الدولة وتلك المرتبطة ببيئة النشاط الاقتصادي وكذلك مقومات الجانب الثقافي والإعلامي. وتتحدد مسئوليات الدولة في جوانب عديدة أولها الجانب التشريعي والقانوني والذي يتمثل في إصدار القوانين والأنظمة. كما تتحمل الدولة في الجانب السياسي والاجتماعي القيام بتعزيز قيم واتجاهات إيجابية في المجتمع أهمها احترام حقوق الإنسان الفردية والاجتماعية والمشاركة الفردية في صنع القرار السياسي وتوفير الخدمات الاجتماعية لصيانة التوازن الاجتماعي وتشجيع المسئولية الذاتية لأفراد المجتمع بالإضافة إلى التدخل عندما لا تتمكن المبادرات الخاصة أو التكافل والتضامن من معالجة المشاكل والصعوبات التي يواجهها الاقتصاد أو المجتمع. أما في الجانب الاقتصادي فيستدعي اهتمام الدولة بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وخاصة في التزام نظام مالي وضريبي كفؤ وفعال يوفر للدولة الموارد الكافية للقيام بواجباتها وتبني سياسة نقدية ومالية تحقق الاستخدام الأمثل للموارد وتوفر الاستقرار الاقتصادي واستقرار الأسعار وسعر الصرف وتطبيق نظام للتنظيم والمراقبة في ظل حرية الأسواق وآلية الثمن والتصدي للمخالفات وتصحيح التشوهات وتوفير السلع العامة لاسيما في التعليم والتدريب والصحة والنقل والبنية التحتية باعتبار الإنفاق الاجتماعي استثماراٍ في رأس المال البشري ويعزز النمو الاقتصادي فضلاٍ عن تشجيع المنافسة وحمايتها وتقديم الحوافز ودعم الابتكار لتطوير النشاط الاقتصادي ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي في هذه الجوانب.
وتستند تلك المسئوليات إلى نظام حكم رشيد يتمثل في سيادة القانون من خلال تطبيق النظام والقانون على كل أفراد المجتمع وتعزيز استقلالية القضاء. كما يركز النظام على دعم استقلالية البنى المركزية لنقابات العمال وأرباب العمل والاهتمام بدور الغرف التجارية وتأكيد دورها الرقابي وبالتالي ترجمة ذلك في تفويض وظائف الرقابة على القطاع المصرفي والتركز الاقتصادي إلى منظمات مهنية مستقلة.

أما بيئة النشاط الاقتصادي فيعتبر تواجد الجهات الفاعلة والمستقلة في النشاط الاقتصادي واستعدادها للمشاركة وتطوير النشاط الاقتصادي وإيجاد الوسائل للتغلب على كافة الخلافات بين شركاء التنمية سمة رئيسة للشراكة الاجتماعية وعاملاٍٍ ارتبط بنجاح اقتصاد السوق الاجتماعي. ويمكن تحديد تلك الجهات الاقتصادية والاجتماعية في الدولة التي تعمل على ملء الفراغ وسد الثغرات في النشاط الاقتصادي الذي لا يتجه إليه القطاع الخاص أو لا يمكنه القيام به ولاسيما في إصدار القوانين وشروط إطار العمل لاقتصاد السوق الاجتماعي وتحديد الأولويات في المجالات المختلفة وتقديم السلع والخدمات العامة عبر المؤسسات العامة المستقلة لضمان التوازن بين الأجور والأسعار ودعم الابتكار. وفي المقابل يتجه رجال الأعمال للاستثمار في ظل الأنظمة والقوانين مع إبراز مسئولياتهم في سداد الضرائب والرسوم التي تمول الخدمات الاجتماعية للدولة والعمل على تحسين الإنتاجية والقدرة التنافسية وتشجيع الابتكار ومتابعة كل جديد في الأسواق المحلية والخارجية وتعزيز المسئولية الاجتماعية للقطاع الخاص والمحافظة على البيئة.
ويظهر دور منظمات المجتمع المدني في جوانب عديدة أهمها المشاركة في المجال والقرار السياسي والمساهمة في تحسين الرعاية الاجتماعية والاقتصادية على المستوى المحلي وتوفير المعلومات من أجل تعزيز الشفافية ودعم محفزات التعلم مدى الحياة والاهتمام بحماية المستهلك والسلوك الاجتماعي الصديق للبيئة. وفي ذات الإطار تسعى النقابات العمالية إلى تحقيق العديد من المهام أهمها توفير ظروف مقبولة اجتماعياٍ في سوق العمل والتفاوض حول الأجور مع جمعيات أرباب العمل مع احترام ظروف السوق والمصالح الأساسية للشركات ودعم اللجان العمالية في الشركات.
أما المراكز والمؤسسات العلمية والبحثية فتعمل على دراسة كفاءة اقتصاد السوق الاجتماعي من حيث الديناميكية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحماية البيئية وتقييم فعالية مختلف أدواته وكذلك رصد التطورات داخل البلاد وخارجها وتقييم تأثيرها على اقتصاد السوق الاجتماعي مثل العولمة والتغيرات الديموغرافية والثقافية والبيئية والسلوك الاقتصادي والاجتماعي ودورات الأعمال التجارية بالإضافة إلى تقديم الخدمات الاستشارية لكافة الجهات.
وأخيراٍ بما أن اقتصاد السوق الاجتماعي يعتبر نموذجاٍ متعدد الأوجه يصعب على المواطن العادي التوصل إلى فهم كامل عملياته الاقتصادية والاجتماعية وارتباطاته البيئية فإن تقديم أي فكر أو منهج جديد بما في ذلك تبني اقتصاد السوق الاجتماعي يتطلب دوراٍ مصاحباٍ وفاعلاٍ للإعلام في تحقيق الاتصال الفعال وتوفير المعلومات يتصدى للمقاومة ضد التغيير والتي تعتبر تحدياٍ يتمثل في وعي أفراد المجتمع بمبررات التغيير وعملياته الاقتصادية والاجتماعية. وينبغي على الدولة تسهيل هذا الدور ودعمه بما يحقق مصلحة المجتمع وخاصة في نشر الوعي بين أفراد المجتمع من خلال البرامج الإذاعية والتلفزيونية وشبكات التواصل الحديث وتعزيز دور جمعيات ومؤسسات حماية المستهلك والمنتج والمحافظة على البيئة في التوعية وتوجيه المواطن نحو القضايا الأساسية والسلوك الاستهلاكي السليم وتوفير المعلومات ذات الصلة في الوقت المناسب.

yyalmutawakel@yahoo.com

قد يعجبك ايضا