كتّاب العالم وسعادتهم في القراءة

 

خليل المعلمي

متعة القراءة لا تضاهيها متعة لمن تعوَّد أن يغذِّي روحه وعقله بالقراءة والاستمتاع بالمفردات والكلمات والجمل، ويغوص في المعاني والتعابير.
فالقراءة المبكرة التي يعتاد عليها الشخص، ويستمر عليها تنمِّي لديه عادة القراءة، وتخلق لديه السعادة والمتعة، إضافة إلى تنمية مداركه وتوسيع المفردات اللغوية والفكرية لديه.
فالقراءة المستمرة والواعية تخلق المفكر والعالم والأديب والمبدع، فالدكتور مصطفى محمود رحمه الله، لم يكن ليصبح مفكراً إلا عندما اعتزل الناس عندما وقع عليه الحجر الصحي نتيجة مرض ألمَّ به، فلجأ إلى القراءة المستمرة والمتنوعة وطالت شهيته قراءة الآداب العالمية القديمة والحديثة، وحينما عاد إلى وضعه الطبيعي وجد نفسه قد ألمَّ بالكثير من الأفكار والآداب الإنسانية المتنوعة، وأصبح شخصاً آخر واسع الفكر قوي الملاحظة، وكان له فيما بعد الكثير من الإبداعات الأدبية والفكرية وكذا البرامج التلفزيونية المتنوعة.
“سعادة القراءة” أحد الكتب الصادرة عن دار جاليمار من العاصمة الفرنسية باريس، ويمثل هذا الكتاب الصادر قبل عدة سنوات إضافة قيِّمة للقارئ المهتم باستطلاع رؤية نخبة من أهم الكتّاب الأوروبيين أمثال “جان جاك روسو”، “ناتالي ساروت”، “مارسيل بروست” و”جان بول سارتر” حول ماهية الكتابة وما تمثل لهم من معنى وكيف رأوا تجاربهم الأولى في القراءة..
اعترافات
في اعترافات المفكر جان جاك روسو حول القراءة يقول: أجهل ما فعلته حتى سن الخامسة أو السادسة لا أعرف كيف تعلمت القراءة، لا أتذكر سوى قراءاتي الأولى وتأثيرها عليَّ، إنه الوقت الذي بدأت أؤرخ فيه بلا انقطاع لوعيي الذاتي، تركت أمي روايات لنا اعتدنا أبي وأنا أن نمثلها عند قراءتها بعد العشاء.
بدأت أولا بالكتب المسلية بلا شك حتى أعتاد القراءة، ولكن سريعاً ما أصبح الاهتمام حقيقيا للغاية لدرجة أننا كنا نقرأ على التوالي وبلا توقف ونقضي الليالي منشغلين بهذا الأمر، ولا نستطع أن نتركه إلا في نهايته، أحيانا كان أبي يقول على استحياء حين يسمع في الصباح طائر السنونو “هيا لننام إنني طفل أكثر منك”.
اكتسبت في وقت قصير من هذه الطريقة الخطيرة ليس فقط سهولة قصوى في القراءة والاستماع إلى نفسي ولكن أيضاً ذكاء فريداً لمن هم في مثل سني يتعلق بأشكال الولع، لم تكن لديَّ أية فكرة عن الأشياء أما المشاعر فكانت كلها معروفة بالنسبة لي، لم أكن أعي شيئاً، بل كنت أشعر بكل شيء، تلك المشاعر المختلطة التي عشتها خطوة خطوة لم تغيِّر مطلقاً العقل الذي لم يكن قد تكوَّن بعد، ولكنها أعطتني عقلاً ذا طبيعة خاصة، وأعطت لحياتي الإنسانية مفاهيم غريبة وخيالية والتي لم تستطع خبرتها ولا انعكاسها أن يشفيني.
انتهت الروايات في الصيف، وفي الشتاء التالي حدث شيء آخر نفدت مكتبة أمي، فلجأنا إلى الكتب التي تمثل حصتنا من مكتبة والدها التي لحسن الحظ كان بها كتب جيدة، وهو أمر بديهي، فالذي كوَّن هذه المكتبة كان وزيراً في الحقيقة وعالما كذلك لأنها كانت الموضة حينذاك لكنه رجل ذو ذوق وفكر، “تاريخ الكنيسة والإمبراطورية” تأليف لو سير، “خطابات بوسيه حول التاريخ العالمي”، “الرجال المشهورون” لبلوتارك، “تاريخ فينيسيا” لناني، “تحولات أوفيد” لابرويير، “العوالم” لفونتونل، وكتابه “حوارات الموتى” وبعض الأجزاء لموليير، انتقلت إلى مكتب أبي وكنت أقرأها له كل يوم أثناء عمله، اكتسبت ذائقة نادرة وربما فريدة في هذا العمر.
أصبح بلوتارك كاتبي المفضل والمتعة التي كنت أشعر بها عند قراءته مراراً بلا توقف داوتني قليلاً من الروايات ثم سريعاً ما بت أفضِّل “اجيزيلا، بريتو، اريستيد إلى اوروندات وارتامن وجوبا”.
من هذه القراءات المسلية ومن اللقاءات التي ذكرتها بين أبي وبيني تشكل هذا الفكر الحر والجمهوري وهذه الشخصية الجموح والأبية، التي لا تطيق العبودية ولا الاستعباد، والتي أرَّقتني طوال حياتي في أقل المواقف خصوصية لتمنحها الدفعة، كنت مهتما بلا توقف بروما وأثينا، أعيش مع رجالهما العظام وقد ولدت مواطنا في الجمهورية، وأبنا لأب حيث حُب الوطن ولعه الأكبر، كنت مفتونا ً به كنت أظن نفسي إغريقياً أو رومانياً وأصبحت الشخصية التي أقرأ حياتها، فالقصة التي تقدم ملامح المثابرة والبسالة كانت تهزني وتجعل عيني متوقدتين وصوتي قوياً وفي يوم كنت أحكي على الطاولة مغامرة سكافولا وفزع من كانوا حولي لرؤيتي أتقدم وأمسك الموقد بيدي لأعرض فعلته.
طفولة
ناتالي ساروت تقول: وضعوا في حجرتي كومودا قديما اشتروه من تاجر يبيع الأثاث المستعمل، كان من الخشب الداكن وله قرصة سميكة من الرخام الأسود وأدراج مفتوحة تنبعث منها رائحة العفن، وتحوي إصدارات عديدة هائلة مجلدة بكارتون مغطى بورق أسود ذي عروق دقيقة مصفرة.. ربما نسيها البائع أو تجاهل أن يأخذها.. إنها رواية لبونسون دو تيري.
هاهي أخيراً اللحظة المرتقبة التي استطيع فيها أن افرش الكتاب على سريري وافتحه على الموضع، متى ما اضطررت لتركه رميت نفسي على السرير وسقطت.. مستحيل أن أتوقف.. إنني مأخوذة بالكلمات بمعانيها وأشكالها وتلاحق العبارات يجذبني تيار غير مرئي مع هؤلاء الذين اتعلق بهم بكل كياني المنقوص، ولكن المتعطش للكمال بهؤلاء الذين هم عين الطيبة والفضيلة، النبل، والنقاء، والشجاعة.. ينبغي أن أواجه معهم الكوارث وأمرُّ بأخطار رهيبة وأن أصارع على شفا الهاوية، وأتلقى لكمات على ظهري، وأن أحبس وأعامل بغلظة من نساء بشعات وأن أكون مهددة بالفقد الأبدي.. وفي كل مرة حينما نكون على حافة ما استطيع تكبّده، وحينما ينعدم أقل أملاً وأقل إمكانية وأقل احتمالاً تتأتَّى لنا شجاعة عجيبة ويصل النبل والذكاء في وقته بالضبط لينقذنا.
أب وابن
ستاندل يقول: نادى الأب سوريل جوليان بصوته الجهير وهو يقترب من ورشته، لم يرد أحد، لم ير سوى أبنائه الكبار العمالقة الذين يهشِّمون جذوع الأرز ببلطاتهم الثقيلة، ليحملوها بعد ذلك إلى المنشار وهم منهمكون تماماً في تتبع العلامة السوداء البادية على قطعة الخشب، كانت كل ضربة من بلطتهم تفصلها عن كم هائل من النشارة، لم يسمعوا صوت والدهم الذي توجه نحو المخزن، وحين دخل إليه بحث بلا جدوى عن جوليان في مكان عمله بجانب المنشار، لاحظه على ارتفاع خمسة أو ستة أقدام راكباً فوق واحدة من القطع الخشبية المكوِّنة للسقف، كما لو كان يركب حصاناً وبدلاً من أن يتابع باهتمام الآلية بكاملها، كان جوليان يقرأ.. لا يبغض الكهل سوريال شيئاً أكثر من هذا، فقد يغفر لجوليان قامته النحيفة والمختلفة عن قامة إخوته الكبار تماماً ولكن عادة القراءة تلك كانت بشعة بالنسبة إليه، فهو لم يكن يعرف القراءة.
نادى على جوليان بلا طائل مرتين أو ثلاثا، فالاهتمام الذي كان الشاب يوليه لكتابه بالإضافة إلى الضوضاء الصادرة عن المنشار منعته من أن يسمع صوت أبيه الفظيع، في النهاية وعلى الرغم من سنَّه قفز الأب برشاقة فوق الشجرة الخاضعة لحركة المنشار، ثم فوق الكمرة العرضية التي يستند إليها السقف وجَّه ضربة عنيفة للكتاب الذي يمسكه جوليان جعلته يطير ليسقط في الجدول وضربة أخرى عنيفة على رأسه أفقدته التوازن كاد يسقط من على ارتفاع اثني عشر أو خمسة عشر قدما وسط ركائز الآلة وهي تعمل، والتي كانت لتهرسه ولكن والده أمسك به بيده اليسرى.
حسنا أيها الكسلان! إذن فأنت تقرأ طوال الوقت كتبك اللعينة في الوقت الذي ينبغي فيه أن تحرس المنشار فلتقرأها في المساء.
اقترب جوليان من كونه زائغاً من قوة الضرب وينزف تماماً اقترب من موقعه الرسمي بجانب المنشار، كانت الدموع ملء عينيه ليس بسبب الألم الجسدي بقدر أمله لفقد الكتاب الذي يعشقه.
أما سارتر فيقول” “بدأت حياتي كما سأنهيها بالتأكيد وسط الكتب”، ويقول جون دو لابرويير: “حين تبني القراءة فكرك، وتلهمك مشاعر نبيلة وشجاعة، فلا تبحث عن قاعدة أخرى لتقيِّم بها الكتاب”.

قد يعجبك ايضا