سجناء “الإجراءات”.. رهائن أبديون

 

تباعد محطات التقاضي ينتهك حقوق النزلاء
قلّة القضاة.. شحة “الكلبشات” والعربات تعرقل إجراءات التقاضي
القضاء وإدارة السجون يتبادلان الاتهامات بشأن المسؤولية

بلا جدوى ولكن دون استسلام ينتظر حسن سالم منذ عشر سنوات اسمه عبر مكبرات الصوت المثبّتة في ردهات السجن المركزي في محافظة الحُديدة.. أدمن سالم القلق أمام شباك صغير مسيَّج بقضبان من الحديد بهُت لونها في انتظار إذاعة قوائم “المبشّرين” بالإحالة إلى المحاكم.
يتشارك في المصير ذاته مع سالم مئات اليمنيين المتهمين بجنح وجنايات مختلفة بسبب انتقائية التقاضي وتأخر إجراءاته، حسبما يوثق هذا التحقيق، في غياب تشريعات تحدّد سقوفاً زمنية لمدد التقاضي ومحطّاته، ويتبادل جهازا العدل والأمن الاتهامات بشأن المسؤولية عن معاناة المنتظرين، فيما تعجز وزارة العدل وهيئاتها التفتيشية والقضائية عن حل هذه المشكلة المزمنة، العابرة للحكومات، حسبما توصل إليه معد التحقيق الذي قابل موقوفين وسجناء ينتظر بعضهم منذ عشر سنوات قرارات الفصل في قضاياهم.

الثورة / وائل شرحة

سنوات ضائعة
أودِع سالم السجن بتهمة “خيانة الأمانة” عام 2009م، حين كان في الثانية والثلاثين من العمر، بعد عام، أصدرت محكمة جنوب الحُديدة (226 كيلومترا -غرب العاصمة) حكما ابتدائيا بحبسه سنة مع إعادة الأمانة لأخيه؛ جنبية ثمينة (خنجر يمني) ونقود، قدّرت المحكمة قيمتها بثلاثة ملايين ريال يمني (5000 دولار).
قدّم سالم استئنافا في 20 يونيو 2010م عبر نيابة السجون التابعة للنيابة العامّة التي أحالت مذكرته إلى رئيس النيابة العامّة، لكن الأخيرة لم تتخذ أي إجراء تجاه ذلك، ما دفع نيابة السجون إلى تقديم مذكرة ثانية في 4 مايو 2013م، ثم أعقبتها بثالثة بعد خمس سنوات في 25 مارس 2018م.
وهكذا يقبع سالم – الذي عجز عن رد الأمانة – خلف القضبان منذ عشر سنوات في انتظار استئناف حكم مدتّه عام واحد، رغم تقديمه ثلاث مذكرات لنقض قرار المحكمة الابتدائية.
رهن المحاكمة
السجون اليمنية كانت تأوي 11429 نزيلا حتى تاريخ آخر إحصائية معلنة عام 2016م، عن عدد النزلاء في سجون 14 من محافظات اليمن الاثنتين والعشرين.
من بينهم 2075 موقوفاً وسجيناً ينتظرون المحاكمة أو الاستئناف؛ أي اثنان من كل عشرة نزلاء، يشكّل الرجال 96 % من هذا العدد بواقع 1994 موقوفا وسجينا، بحسب مؤسسة السجين الوطنية؛ وهي هيئة أهلية تأسست في 8 يوليو 2013م، وتضم السجون أيضا 4311 موقوفا لا يزالون رهن تحقيقات النيابة لم تحل ملفاتهم بعد إلى المحاكم؛ أي أربعة من كل عشرة نزلاء، وهناك 23 أجنبيا ينتظرون المحاكمة – منهم امرأتان- فضلا عن 40 حدثا واثنتي عشرة امرأة، وأحيل 29 سجيناً إلى المصحة النفسية، بحسب الإحصائية ذاتها، ويتوزع النزلاء على 14 سجنا مركزيا وتسعة احتياط (مخصّصة لإيواء المتهمين أثناء فترة التحقيق) في 14 محافظة، 11 منها تخضع للحكومة في صنعاء.
وتعود آخر إحصائية معلنة إلى 2016م، بعد عام على “اندلاع حرب العدوان ” التي غيّرت أنظمة الإدارة والسيطرة في معظم محافظات بلادنا، وتعذّر الحصول على بيانات من المحافظات الثمان المتبقية.
أحزان إبراهيم
“توفيت أمي وأخي وابن عمتي، وشُيعت جنازاتهم من منزلنا، كما فقدت جزءاً من بصري وأنا ما زلت خلف القضبان أنتظر صوت مطرقة القضاء للفصل في قضيتي”
بهذا الكلام يشرح فتيني يحيى إبراهيم (65 عاماً) حاله في السجن المركزي بمدينة الحُديدة.. إبراهيم أوقف في 23 مايو 2015م مع ولديه حازم (19 عاماً) وحسين (21 عاماً) بتهمة القتل العمد، بحسب وثائق رسمية صادرة عن السجن.
في البدء أمضى الأب وابناه عاماً في سجن مديرية بيت الفقيه التابعة لمحافظة الحُديدة (احتياطي) قبل نقلهم إلى السجن المركزي لمدّة أربع سنوات، تاركين خلفهم والدة وخمس بنات أكبرهن 14 عاماً وأصغرهن سبع سنوات، وفي أبريل 2019م أعيد المتهمون الثلاثة إلى سجن مديرية بيت الفقيه لاستكمال التقاضي أمام محكمتها الابتدائية.
أربع سنوات انقضت من دون أن تعقد المحكمة جلسة واحدة بسبب عدم وجود قاضٍ، حسبما أعلنت إدارة السجن.
اكتظاظ
نائب مدير السجن المركزي في الحُديدة الرائد عبد اللطيف الشرفي يشكو من اكتظاظ السجن بـ 1400 نزيل، موزعين على أربعة عنابر لا تزيد سعتها مجتمعة عن 300 شخص.
اعتماداً على الصور الجوية لـ “جوجل إيرث” وبالاستعانة بمهندس متخصص يتبين أن المساحة الإجمالية للعنابر تقدر بـ 960 متراً مربعاً، بطاقة قصوى 370 سريراً، إلى جانب 1000 متر مربع من الممرات وساحة تتوسط العنابر على شكل سوق مصغرة للنزلاء.
وقت ميّت
إلى جوار حسن سالم يجلس عبده الضبيبي الذي انتظر ستة أعوام قبل أن يصدر حكم بحقه في 2019م، بعد أن تعاقب أربعة قضاة على ملفه.. هذا الرجل البالغ من العمر 37 عاما كان يُستدعى للمحاكمة مرّة كل ثلاثة أشهر، ثم يبلّغ بتعذر عقد الجلسة إما لغياب القاضي أو ممثل عن النيابة العامّة.
قانون الإجراءات الجزائية لسنة 1994م ينص – في المادة 316/ الفقرة الأولى- على “وجوب حضور ممثل النيابة العامّة جلسات المحاكمة في جميع الدعاوى الجزائية وعلى المحكمة أن تسمع أقواله وأن تفصل في طلباته”، “ويبطل أي إجراء قضائي يتم في غياب ممثل النيابة”.. بحسب الفقرة الثانية من القانون ذاته.
مصلح البدجي محامي الضبيبي يحمّل إدارة السجن- بدرجة أولى- مسؤولية عرقلة قضية موكله بسبب عدم نقل النزلاء إلى المحاكم.
ولاحظ معد التحقيق خلال زيارته الثالثة إلى سجن الحُديدة المركزي في 13 مايو 2018م ثمانية نزلاء في فنائه ينتظرون نقلهم إلى المحاكم والنيابات، ورغم مرور ثلاث ساعات كانوا لا يزالون ينتظرون عربات النقل والحراسات المرافقة لها، حتى ساعة مغادرته السجن الساعة الحادية عشرة ظهراً.
اتهامات متبادلة
نائب مدير السجن المركزي في الحُديدة الرائد عبد اللطيف الشرفي يحمّل النيابات والمحاكم مسؤولية بطء البت في قضايا السجناء، كما يشكو من نقص التجهيزات؛ من عربات نقل وأصفاد (كلبشات) وعناصر أمنية مرافقة أثناء النقل.
“اثنتان فقط من عربات السجن الأربع صالحة للنقل – سعة كل منهما 20 سجيناً – مقابل أوامر بنقل بين 50 و 60 نزيلا يوميا”، حسبما يشرح.
تتشابه الظروف والأسباب التي تحول من دون عقد جلسات منتظمة لمحاكمة الموقوفين والسجناء في سجني العاصمة والحُديدة، اللذين زارهما معدّ التحقيق.
في سجني الحُديدة المركزي والاحتياطي ينتظر 300 إلى 350 نزيلا إجراءات المحاكمة لفترات تصل إلى أربع سنوات، بواقع واحد إلى أربعة من نزلاء السجن البالغ عددهم 1400، بحسب الرائد الشرفي.
معد التحقيق حاول مقابلة وكيل نيابة سجن الحُديدة القاضي فؤاد المقطري خلال الأيام الأربعة التي قضّاها داخل باحة السجن لإنجاز هذا التحقيق (11 إلى 14مايو 2018م). إلا أنّ القاضي لم يحضر، فلجأ إلى الاتصال به مراراً عبر الهاتف لكن من دون جدوى أيضاً.
نيابة السجن ترد
يرفض الوكيل السابق لنيابة السجن المركزي بأمانة العاصمة القاضي صارم الدين عبد الولي مفضل اتهام القضاء بتأخير عقد الجلسات ويحمّل الجهات الأمنية ممثلة بإدارات السجون نسبة 90 % من التأخر في فصل قضايا المساجين مقابل 10 % تتحملها النيابات والمحاكم.
“تغيب القضاة أو أعضاء النيابات يعود إلى تكرار عدم إحضار المتهمين”، حسبما يضيف مفضل، واصفا تغيب القضاة بأنه “حدث نادر لا حكم له”، كما ينفي اتهام الجهات الأمنية لنيابة السجون بعدم متابعة قضايا المحتجزين.
ويؤكد القاضي مفضل أن “نيابة السجون ـ التابعة للنيابة العامة ـ هي المخولة بمتابعة قضايا السجناء الذين هم رهن المحاكمة”، كما يناط بهذه النيابة “كل ما يتصل بعقد الجلسات وجدولتها واختيار تاريخها”، ويؤكد أن هذه “المشكلة ليست حديثة، وإنما متوارثة منذ سنوات”، مرجعا أسباب التأخير إلى “قلة عدد قضاة المحاكم والنيابات مقابل عدد القضايا المطروحة أمامهم”.
على أن القاضي مفضل يشاطر الرائد الشرفي شكواه حول “عدم توفر عربات وقوات حماية أمنية مرافقة بشكلٍ كافٍ لنقل السجناء والموقوفين”.
لكن مصدرا رفيعا في هيئة التفتيش القضائي -اشترط عدم الإفصاح عن هويته لأنه غير مخول بالحديث إلى وسائل الإعلام- يتهم النيابات ممثلةً بأعضائها بالتسبب في تأخير الفصل في قضايا السجناء، ويقدّر هذا المصدر بأن النيابات تتحمل بين 70 و 80 % من أسباب التأخير، بالاستناد إلى “شكاوى المواطنين والسجناء التي تتلقاها الهيئة، بينما بقية الشكاوى تتوزع بين المحاكم والجهات الأمنية”.
لم يحدد المصدر عدد الشكاوى أو الإجراءات التي تتخذها هيئة التفتيش، لكنّه يوضح أنها “توجه القضاة بسرعة فصل القضايا التي على ذمتها سجناء”، ويحدّد القانون “مدة معينة للفصل في القضايا، لأن لكل قضية ملابساتها وإجراءاتها”، حسبما يشرح.
وحول تكرار تغيير القضاة قبل مضي خمس سنوات على تعيينهم يقرّ المصدر بتأثير ذلك على سير الفصل في القضايا، لكّنه يردف أنه “بسيط”. كما يبرر النقل بـ”حاجة مجلس القضاء الأعلى للقاضي في مكان أهم أو عدم ملاءمة القاضي وكفاءته في المكان المعيّن فيه”.
تستقبل نيابة السجون في صنعاء بين 8 و 16 طلب إحضار سجناء يوميا من النيابات والمحاكم، بحسب إحصائية نيابة السجون التي يضطر وكيلها أحياناً إلى تأجيل نقل النزلاء إلى حين توافر التجهيزات.
وتشير إحصائيات وزارة العدل في صنعاء إلى وجود 48 قاضياً في محافظة الحُديدة موزعين على 22 محكمة، بمعدل قاضيين لمعظم المحاكم.
مذكرات وتهم
إدارة السجن المركزي في أمانة العاصمة ترفض الإدلاء بأي تصريحات أو بيانات إلا من خلال مذكرة من رئاسة مصلحة السجون في صنعاء التي أحالت طلب معد التحقيق إلى مدير عام الرعاية والتأهيل في المصلحة.
غير أن معد التحقيق وبعد ستة أشهر من المحاولة حصل على إذن من مصلحة السجون لمقابلة أربعة من نزلاء السجن المركزي.. في المقابل أحجمت المصلحة وإدارة السجن عن ذكر عدد من هم قيد المحاكمة، والفترات التي قضّوها في السجن أو التهم المسندة إليهم، وذلك بدعوى أن هذا العمل “استخباراتي في ظل الوضع الذي تعيشه بلادنا”.
ثلاث من الحالات الأربع التي سُمح لمعد التحقيق بمقابلتها كانت لسجناء قضاياهم منظورة أمام محكمة “بلاد الروس وبني بهلول” الابتدائية التابعة لمحافظة صنعاء، هذه المحكمة أقفلت لخمسة أشهر نتيجة غياب القضاة (من يونيو إلى أكتوبر) عام 2017م.
منذ أودع محمد الحميضة السجن المركزي في صنعاء في 17 فبراير 2009م تعاقب على قضيته خمسة قضاة في محكمة بلاد الروس وبني بهلول الابتدائية، وبعد تسع سنوات صدر بحق هذا الرجل الأربعيني – من أبناء مديرية سنحان وبني بهلول- حكم ابتدائي بالإعدام عقب إدانته بتهمة القتل، لتبدأ بعدها رحلة الاستئناف التي لم يعد السجين يتذكر كم مرّة نقل خلالها إلى المحكمة.
أما السجين إسماعيل الحدّي (36 عاماً)، فأكمل في أغسطس 2019م أحد عشر عاما داخل السجن بتهمة القتل، خلال تلك الفترة، نظر في قضيته أربعة قضاة في المحكمة ذاتها، ليصدر بحقه في فبراير 2019م حكم ابتدائي بالإعدام، ومنذ ذاك الحين تستمر معاناته في محكمة الاستئناف في رحلة انتظار جديدة.
وبحسب بيانات رسمية صادرة عن وزارة العدل يعمل في محافظة صنعاء 32 قاضياً موزعين على تسع محاكم، تستقبل كل منها بين 20 و 30 قضية يوميا (بمعدل 225 قضية). هذا يعني أن القاضي الواحد يجب أن ينظر في 10 إلى 15 قضية يومياً.
قاعتان وقاض
“قاعتان في مبنى غير مهيأ لنشاط وعمل المحكمة”، هكذا يصف المبنى رئيس محكمة بلاد الروس وبني بهلول القاضي محمد يحيى البرغشي، ويقول البرغشي إن “هناك محاكم أعدت قبل سنوات عديدة لقاضٍ واحد، والآن يعمل فيها أكثر من عشرين قاضياً”.
القاضي البرغشي المعيّن في نوفمبر 2017م يتفق مع القاضي صارم الدين مفضل حول أسباب تأخر الفصل في القضايا، ويشير القاضيان إلى قلّة عدد الكادر الإداري للمحاكم والبحث الجنائي، إلى عدم وجود مبان مؤهلة، وتغيب أعضاء النيابة. إضافة إلى “عدم قيام الجهات الأمنية ممثلةً بالمباحث بجمع الأدلة وقت وقوع الجريمة، وضبط الآثار والدلائل يؤثر على مجريات سير القضية وإطالة مدّة البحث والتقاضي”، حسبما يشرح.
ويبرر القاضي البرغشي تأخر الفصل في القضايا إلى ارتفاع عددها “قضايا القتل المنظورة لدينا تصل إلى 86 قضية حتى أكتوبر 2019م، يقابلها خمسة قضاة وقاعتان غير مؤهلتين للمحاكمة”.
كما ينفي البرغشي أي تغيّب للقضاة “لا يمكن أن يغيب القاضي عن عقد جلسات السجناء وهو من يطلب إحضارهم، إنما يكون التغيّب من عضو النيابة”، ويدعّم رأيه بمثال “طالبت لمدة عام كامل بإحضار سجين للمحاكمة ولم تحضره الجهات الأمنية”.
ويؤكد البرغشي أن نقل القضاة من محكمة إلى أخرى قبل مرور خمس سنوات على تعيينهم “يؤثر على سير إجراءات التقاضي وتداولها، كون القاضي الجديد بحاجة إلى وقت للاطلاع على ملف القضية”.
القانون الصادر سنة 1991م والمعدَّل سنة 2013م بشأن السلطــــــة القضائيــــة ينص على “لا يجوز أن يبقى أحد القضاة في محكمة واحدة بغير نقل لأكثر من خمس سنوات”، وفي ذات القانون، “يمنع نقل القاضي من محكمة إلى أخرى قبل مرور ثلاث سنوات على تعيينه”.
بينما يتبادل القضاء وإدارة السجون الاتهامات بشأن المسؤولية عن معاناة السجناء والموقوفين، تضيع سنوات من عمر النزيل في انتظار تهيئة المحاكم وتأمين “كلبشة” وعربة نقل.
ومع غروب شمس 2019م يكون المتهم حسن سالم قد أمضى ربع عمره خلف قضبان السجن، ولا يزال ممسكا بقضبان حديد متهالكة أتعبها أمل رجل يصحو كل صباح منتظراً صوت منادي النيابة.
*أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة “إعلاميون” من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، إشراف عام: سعد حتر

قد يعجبك ايضا