في المرايا

 

د.عبدالعزيز المقالح

لا أُحبُّ المَرايا
المرايا تُذكرني كل يومٍ
بأن الزمانَ يطاردني
ويداهُ المخضّبتان بدمع أبي
ترسمان التجاعيدَ حول جفوني
وفوق جبيني..
تهمسان لقلبي
بأنّ الشبابَ انتهى
والكهولة تزحف مسرعةً
نحو شيخوخةٍ باردة؟
***
لا أُحِبُّ المَرايا
البيوتُ مرايا
الطريقُ مرايا
الدكاكينُ مزدانةٌ بالمرايا
المقاهي مرايا
الثيابُ التي نرتديها مرايا
هنا تتضخّم فيّ
وفي الآخرين «الأنا»
حين نبصرُ أشكالنا
في المرايا.
***
لا أُحِبُّ المَرايا
لا أحبّ الوضوحَ الذي يتمرأى
على سطحِها
هكذا قال وردُ الحديقةِ
والشجرُ المتسلّق جدرانَ
غرفتنا.
هكذا قالت السيدات
المسنّاتُ
والفتياتُ اللواتي
على بابِ سنِّ الزواج
***
لا أحبّ المرايا التي
لا تحِبُّ النساء
ولا تتنفّس ريحةَ أجسادهنّ..
المرايا التي افتقدت لذّة
الاندهاش تجاه الجمال
ولا قلبَ في صدرها
يشتكي خَدرَ الأعين الساحرات
ولا ثغرَ تملكه
يحتسي من رحيق
الشفاه..
***
وقد غرقت في الدماء
النعوش؟!
***
لا أُحِبُّ المَرايا
فهيَ سلبيةٌ
ومخاتلةٌ
كالصديق المداجي..
لا تُريني عيوبي،
لا تدلّ خُطايَ
على أكثرِ الطرقات
أمانًا
وأكثرها حكمةً
وامتلاءً بماء الصوابْ
***
كلما كثرت في البيوت
المرايا
كثرت في البلاد
الضحايا.
ينظر القادهُ النرجسيّون فيها
مواكبَهم والقصورَ التي بدمِ الشعب
ضاءت قناديلُها
فيزيد توحّشهم.
ولها يقتلون ويختلسون
ولا صوتَ يعلو على صوتهم
أو نداء.
***
لا أُحِبُّ المَرايا
فهي شاردةٌ
لا ترى أحدًا
وتَوَلّى الوردَ شحوبٌ قاتل؟
ماذا ستقولن وقد طحنت
أسنانُ الحرب المجنونة أجسادَ
شبابِ الحارة،
واعتصر الجوع قَوام الفتيات،
أراكم أفواجًا ووقوفاً في بابِ الشعر.
لا بابَ هنا
رحل الباب
ولا ماءَ لتشربَ منه الكلمات
ولا نارَ لكي تتدفأ من
بردِ الليل.
***
يا شعراءَ الزمنِ الوغد
أفيقوا.
ما كان سيأتي
لن يأتي
لا تنتظروا، لن يرجعَ من سَفرتهِ
الشعُر الغائب
لن يرجعَ والدّم يغطي الطرقات
لن يرجعَ والقتلى فوق أديمِ الأرض
يريدون قبورًا تُؤويهم
لن يرجعَ، فليدفن كل فتًى موهوبٍ
أبكارَ قصائدهِ
وليُغمِد نصلاً في صدرِ بغايا
الشعر.
ولا يترك للجلاّدين على ساحتهِ
سوقاً يبتاعون بها الأقلامَ
ويصطادون بناتِ الشعر.
***
يا شعراءَ الجيلِ الطالع
مِن خلف الظلمةِ
كيف تُجيدون الإمساك
بجمر الشعر
ولا يشوي الجمرُ أَصابعكم
من أي سماءٍ تتلقّون قصائَدكم
باذخةً ومبرّأةً
لا تشكو من خللٍ أو عِوَجٍ
إني أغبطكم
وأرى فيكم زمناً آخرَ
زمنًا مسكونًا بالحب
وبالنشوةِ
زمنًا لا يشبهُ هذا الزمنَ الوغدَ
زمنَ الخوف المتحجّر في الأحداق
الناشب مِخلبُهُ في جسد الأوراق.
* من ديوانه الجديد ” بالقرب من حدائق طاغور”.

 

قد يعجبك ايضا