الأفكار المستوردة أكبر أكذوبة ضخَّمتها وروَّجتها الأجهزة الاستعمارية

في مقابلة لم تنشر.. الشاعر الكبير عبدالله البردوني : الأزمة في الثقافة هي قلة المثقفين الحقيقيين

 

اليمني في كل مهجر معروف ببؤسه
هناك شعراء يتخذون الفلسفة كموضات موسمية
الشعر الحقيقي هو ما يضيف إلى الفن والحياة
قصائدي جاءت من داخلي

رغم مرور سنوات طويلة على وفاته ، إلا أن فكر وإبداع وأدب الشاعر الكبير الراحل عبدالله البردوني ما زال حاضراً وفاعلاً في واقع حياة مجتمعنا ،في مختلف مجالاته، وبالطبع في المجال الثقافي ،وفي التعبير عن تطلعات ورؤى ذلك الواقع وملامسة همومه ومواجعه وأحلامه والاشتباك مع قضاياه المتعددة وتناولها بصورة عميقة ودقيقة وصادقة ..
وهذا الإبداع الأصيل والفكر المتجدِّد والحضور المتألق والقوي لإبداعات وعطاءات شاعرنا الكبير الراحل ،يعكس مدى معرفته العميقة والشاملة بقضايا وهموم وتطلعات مجتمعه ،ونظراته ورؤاه الثاقبة وعوامل بروزها وكيفية معالجتها وتشريح جميع أسبابها.
ومن يعود إلى كتاباته وإبداعاته وآرائه ،سيذهل لعظمة وعقلية وعبقرية البردوني وحضورها القوي والبارز في التعبير والتفسير والتحليل للكثير من قضايا وهموم واقعنا وأحداث الوطن المعاصرة والمتلاحقة.. وذلك ما تؤكده سطور المقابلة الخاصة التي أجراها الشاعر أديب قاسم مع الشاعر الكبير الراحل عبدالله البردوني والتي أجريت في عام 1974م ولم يسبق أن نشرت من قبل في أية وسيلة إعلامية وجاءت هذه المقابلة تحت عنوان «حديث من القلب إلى القلب» والتي نشرها مؤخراً الأستاذ محمد جرهوم وزير الاعلام الأسبق في صفحته الشخصية على «الفيس بوك» عن “صوت عدن”.. ولأهميتها وأهمية توثيق ما جاء فيها، ننشرها هنا.. ونصّها كالتالي:

ما هو السؤال صيغة وفكرة ؟
– السؤال هو أول مواجهة للدهشة الكونية، فقد كان الإنسان لا يملك إلا أن يدهش من كل ما رأى وسمع , ولما بدأت الدهشة تخفّ بدأ الإنسان يسأل كيف ؟ وماذا؟ وما هذا ؟ وما هو؟ وكان هذا التساؤل أول سطر في أول صفحة من كتاب الكون، ثم توالت الأسئلة وتوالى اكتشاف الحقائق الكامنة وراء الظواهر , حتى أسلم كتاب الكون أسراره إلى الإنسان ثم رجع الإنسان إلى نفسه ليسأل عن ذاته ثم يربط ذاته بموضوع , لأنه أراد أولا أن يحيا , ثم أراد أن ينتفع بحياته في الوجود الإنساني .

ما هو السؤال الذي توجِّهه دائما إلى نفسك ولا تجد له جوابا ؟
– أهم سؤال أواجه به نفسي هو ماذا حققت ؟ وما قيمة وجودي ؟ وهل حياتي مبرر كاف لميلادي ؟ وهل الحياة تستحق تعاسة بلا هدف أو السعي إلى هدف ؟ ثم من أنا؟ وكيف أكون غيري كما كانت شمس اليوم غير شمس الأمس ؟
هل يعتبر الشعر وما تمارسه من الكتابة وسيلة تحقيق ذاتك وحياتك ؟
– الشعر وسيلة وغاية في الوقت نفسه , هو وسيلة للحياة الأفضل , وغاية في الفن , شعر الحياة هو غير الحياة، هو بعض صورتها , وهو صوتها , وتبقى الغاية منه الوصول إلى ضمير الحياة في الإنسان , والشجرة التي يزرعها الإنسان , في الخضرة ووجه الأرض الذي ينبت الخضرة , والإنسان العامل الحاسم في تحقيق مملكة الخصب الأرضي والقلبي، فإذا كانت الشجرة كائنا حرا يحركها الهواء , فإن الإنسان شجرة تحرِّكها الإرادة، وكم نرى أشجارا دلَّت على وطنيتها أكثر من الإنسان لأنها تواجه العواصف والفؤوس , فتكبر لكي تنمو , وتنمو لكي تكبر , ومع هذا فهي متشبثة بالتربة والهواء لكي تبذل الخضرة والثمرة والأحطاب , وهي مع كل البذل تشقُّ الأرض وتفتٍّت الصخور لتنفذ جذورها إلى أعماق أبعد في الأرض , وليس الشعر إلا الأصداء المترددة من صوت الحياة بخضرتها وإنسانها وأشجارها وتربتها وأمطارها وكل تحولاتها , فإن كل النماذج الحياتية رائعة وأروعها الإنسان وقد جاءت روعته من تجاذبه مع الحياة وتأثيرها فيه وتأثيره فيها .
لقد كان لبائيتك الشهيرة في مهرجان أبي تمام بالموصل وقع حسن في نفوس الأدباء والمثقفين العرب حتى قيل انك قد انتزعت بها نصرا لليمن , فهل كنت تنتظر لقصيدتك هذه الضجة بين شعراء ونقَّاد تسلَّطت عليهم الأضواء كثيرا؟
– عندما أعد القصيدة عن تفاعل داخلي , واقتران بالموضوع الخارجي , لا أسأل عن نجاحها أو فشلها , ولا يهمني نجاحها أو فشلها , يهمني أن تغامر القصيدة كما غامرت أنا يوم ولدت , وعليها أن تتحمل فشلها بلا مرارة , ونجاحها بلا غرور.
حين نتلمس قصائدك نجدك بداخلها , الأمر الذي جعل الكثيرين يطلقون عليها تسمية ( البردونيات ) ويذكرنا هذا « بالشوقيات » فقد ارتبط أحمد شوقي بالقصيدة العربية وبنمط محدد عرف به , فما هي خاصية هذا اللحن الداخلي لقصائدك حتى وإن كانت هذه مهمة النقاد ؟
– الفرق بين التسميتين واضح , شوقي هو الذي سمى قصائده « بالشوقيات » , أما أنا فلم اسمها بالبردونيات , أنتجتها بلا أسماء سوى عناوينها , أما وجودي بداخلها فسببه أنها جاءت من داخلي بكل ما فيَّ من بشرية وبكل ما فيها من التعبير عن البشرية .
ما موقفك من الشعر الحديث , لا سيما أن المؤتمر العام الأول للأدباء والكتاب اليمنيين كان قد عرض لهذا الجانب في مسألة التوفيق بين القديم والجديد ؟
– ليس لي موقف محدد من الأسماء وإنما موقفي يتحدد من قراءة النص الشعري , ومنه احدد الموقف , فلا يهمني أن يكون هذا حديثا وهو غير قادر على خلق الحداثة في الحياة ولا يهمني أن يكون هذا كلاسيكيا إذا كان قادرا على افتتاح قلب أو إثارة حس أو تحريك سؤال، الشعر هو الذي يجعلك تفكر عن طريق الاثارة , فكل شعر يحرِّك الملكات ويفتح العيون على الجمال , فهو الشعر الحقيقي مهما كانت هويته أو مذهبه , لا يهم المذهب بقدر ما يهم جودة النوع وإضافاته إلى الفن والحياة .

هل للشعراء اليمنيين فلسفة ؟
– يبدو أن هذا الجانب غير كاف في شعرنا اليمني، فما أكثر الشعراء الذين يتخذون الفلسفات كموضات موسمية , لكن ليست الفلسفة زينة ,وإنما هي عمق أفكار ينعكس على الشعر فيزيده أبعادا ونضجا، صحيح أن الشعر غير الفلسفة لكن لا بد للشاعر من أفكار يضيفها إلى الأفكار , وهي بالتالي تجعل لفنّه شبابا دائما، لأن الشعراء الكبار في المنطقة العربية والعالم , هم الذين ملكوا أفكارا وعبَّروا عن أفكار، كأبي تمام والمتنبي والمعري وأراجون وبودلير وشيكسبير .. فالسبب في ارتفاع هؤلاء إلى أعلى القمم هو مزجهم بين الفن كجمال , وبين الفكر كروح لهذا الجمال .

هل هناك أزمة ثقافية؟ إن كانت ثمة أزمة ثقافية فما سببها؟. وإذا لم تكن هناك أزمة فما رأيك في من يقول هذا؟
– ما من شك أن هناك أزمة في الثقافة وأزمة من الثقافة , أما الأزمة في الثقافة فقلة المثقفين الحقيقيين , وقلة الثقافة القادرة على خلق مثقفين , فالأمية النفسية والذهنية لا تقل انتشارا عن الأمية البدائية، ليست مشكلتنا أمي لا يقرأ , بل مشكلتنا قارئ لا يفهم، هذه هي الأزمة في الثقافة أما الأزمة من الثقافة فهي ناتجة عن هذا الخليط من الثقافة التي يحاول بعضها أن ينسخ بعضا أو يزيد في بعض , مثلا على هذا الذين أرادوا أن يزيدوا في الماركسبية الحرية الذاتية والحب الفردي ..وممارسة هذا الحب بلا قمع، وهذه إضافة لا تعطي أي قيمة لأننا لا نبحث عن الحرية , بل نبحث عن الانتفاع بالحياة والحرية معا، وليس الإنسان في حاجة إلى كتب تعلِّمه كيف يضاجع وكيف يشرب فإن هذه الكتب كمن يعلِّم الأسماك السباحة، فالإنسان قادر على ممارسة رغباته بشكل أو بآخر , وبلا فلسفة ولا مرسومات . إلا أن هذه الثقافات قد أوجدت أوساطا تردِّدها وتشبعها وتتحمَّس لها لا لشيء إلا لأنها صيحة جديدة دون أن نعرف خصبها أو عقمها، مشكلتنا أننا نعجز عن إصدار الصيحات فنصغي إلى آخر الأصوات الفكرية كما تستورد آخر الموضات , دون مراعاة لاقتصادنا ولياقتنا الجسمية، هذه هي الأزمة من الثقافة .

ما هي المعاصرة في الأدب شكلا أو روحا ؟
– الأدب تتناول أشكاله من أشكال المجتمع وبالطريقة القادرة على نقل الحس وتوصيله إلى الجمهور، وليس بالضرورة أن نتعامل مع شكل واحد وإنما نتعامل مع عدة أشكال لأن تنويع الأشكال ينوِّع الأغراض ويغني الأسلوب بخصائص النفس وقد فطن إلى هذا الشعر العربي فزاد من بحوره من فترة إلى فترة استجابة للتطورات الاجتماعية وتطور الأحاسيس الفنية، ولا شك أن الأشكال المعاصرة قد تنوَّعت بتنوِّع الفنون من مسرحية وقصصية وشعرية وكل شكل له أشكال , إلا المعاصرة فهي روحية أكثر منها شكلية لأن قيمة الشكل تنبع من الروح , لأن الإضاءة الداخلية هي التي تجمِّل الشكل وتخصِّب إيقاعه وألوانه هذا من ناحية شكلية وروحية، أما من ناحية وجدانية فإن الوجدان الجماعي وشرف الموقف وصحة المنطلق أهم الاتجاهات المعاصرة , أو هي الاتجاه المعاصر السليم، فالمعاصرة هي المشاركة في العصر , واستيعاب ما فيه من أجل العطاء إليه، فلا يمكن أن نكون مجرد أوعية وإنما نحن مزارع بشرية متحركة نتلقى البذر لكي نعطي الثمرة المختلفة عن البذر، ثم لا بد من تنويع هذه الثمرة بشرط ألا نخرج عن الوجهة الإنسانية , وليست الوجهة الإنسانية جانبا واحدا لأن الإنسانية شيء كبير تؤدي إليها عدة طرق , وتبلورها عدة أساليب لأنها كبيرة والهدف كبير، المهم أن تتبلور الغاية , وإن تعدَّدت الطرق , والطرق هنا هي الأشكال الفنية المليئة بالروح الجماعية , وبصدق الحدس الإنساني ونضج التجربة، لأن افتعال الصدق أو تكلّف التجربة لا يحملهما أي شكل مهما غرق في عصريته وأغرق في حداثة شكله، لأن الحداثة في الشكل تخصب وتزدهر بازدهار الروح , وثروة الأسرار النابعة من نصاعة الموقف وإشراق المنطلق , واكتشاف الغاية من خلال المعاناة ومن محاولة الخطوة الأولى .

هل هناك ما يمكن ان يسمى أفكارا مستوردة ؟
– بعد نكسة حزيران كادت ان تتعمم عبارة الأفكار المستوردة . وهذه أكبر أكذوبة ضخَّمتها الأجهزة الاستعمارية , فإن كل الأفكار واردة وليست مستوردة، فقد تلقفت لغتنا الثقافة اليونانية في القرن الثامن والتاسع والعاشر وتلقفت الثقافة الفارسية والتصوف الهندي وكل ما أنتجته الحضارة الفكرية القديمة… وكل هذا لم يسيطر ولم يستورد وإنما ورد للاحتياج إليه , بل بحثنا عنه لكي تزداد حياتنا ضوءا وقيمة .. فكما أن الإنسان مفكِّر فهو متقبِّل أفكاراً , وهو يتقبلها لأنه يعطيها ، قد يمكن استيراد أي شيء إلا الأفكار لأنها من دوافع ضرورة حياتية , ومن ثمرة تطلع الإنسان إلى غير ما عنده , لكي يلتقي بالآخرين تأثرا وتأثيرا .

طرحت قصيدتك «الغزو من الداخل» كثيرا من المسائل المثيرة والتفسيرات فما هو تفسيرك أنت ؟
-تفسيري لها أنها صوت الواقع المرير وإن اختلفت نغمتها عن صوت الواقع الصخري .. صحيح أنها لا بد أن تطرح تفسيرات وأسئلة لا لأنها غريبة , إلا أن الرؤية إلى الواقع تختلف من شخص إلى آخر، والتفسير الذي لا تقبله القصيدة ولا موقف صاحبها هو اعتبار الخونة منفيين، فهذا غير معقول لأن الخائن لا وطن له سوى أدغال الخيانة، وقد قصدت بالمنفيين مغتربين في كل مكان ومعرفتهم بالشحوب والضياع في بلد الترف والاسمنت والآلة، فاليمني في كل مهجر معروف ببؤسه , وهو منفي في الداخل لأنه غريب في الخارج , وهو مغترب في الخارج لأنه منفي من الداخل , بلا تمييز بين يمني ويمني ولا يعتبر خائن بلاده أو المتآمر عليها مغتربا وإنما هو متآمر لم تضطره الحاجة وإنما ملكته الخيانة .. هذا ما أريد أن أفسِّره وأظنه لا يحتاج الى تفسير لو نضجت النظرة إلى الواقع ومن أصح النظرات انك إذا درست شعرا تصله بسيرة صاحبه ومواقفه , فإن هذا أسطع الأضواء على أي أدب وفكر .

قد يعجبك ايضا