فهموا حقيقة العبادة فكان الله ناصراً لهم

دور الصيام في بناء الرجال (2-2)

 

أحمد محمود أبو زيد

فتح مكة:
وبعد غزوة بدر، هناك فَتْح مكَّة الذي تَمَّ في العشرين من رمضان من العام الثامن للهجرة؛ ولكي ندرك عظمة هذا الفتح لا بد من النظر إلى حال المسلمين وقت الهجرة، وحالهم وقت الفتح، فوقت الهجرة كان عدد المسلمين قليلاً، وقد هاجر الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو وأصحابه سرًّا من مكة إلى المدينة؛ خوفًا من بطش قريش وأذاها، وفرارا بالدين الجديد، وترك مكة وهو يقول: ((اللهم إني أعلم أنك أحبُّ بلاد الله إلى الله، وأحبُّ بلاد الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)).
وقد ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الكعبة وهي محاطة بالأصنام، ولم يُفَكِّر هو أو أحد صحابته أن يذهب إليها، ويحطم تلك الأصنام؛ لأن أسلحة الحق في ذلك الوقت كانت ضعيفة، وتحتاج إلى القوة، ولكن ماذا حدث بعد ثماني سنوات من الهجرة؟
لقد عاد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى مكَّة يوم الفتح بجيش، قوامه عشرة آلاف مقاتل، وتغيَّرَت بذلك الصورة تمامًا؛ حيث رجع الحق إلى مكة بأسلحة قوية؛ لتتصدى للباطل الذي ضعفت أسلحته أمام قوة الحق؛ لذلك رأينا زعماء قريش عندما علموا بقدوم الرسول – صلى الله عليه وسلم – يهرعون إليه، ليعلنوا إسلامهم ويطلبوا منه الصفح والعفو، ومنهم أبو سفيان بن حرب، الذي كان يتزعم جيش الكفار ضد المسلمين.
وما أن يدخل الرسول – صلى الله عليه وسلم – مكة حتَّى يذهب إلى بيت الله الحرام، ويحطم جميع الأصنام التي حوله، وهو يقول ((جاء الحق، وزَهَقَ الباطل؛ إن الباطل كان زهوقًا)).
وتتجلى عظمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ورحمته بالقرشيين، حين يجمعهم بعد الفتح، ويقول لهم: ((ما تظنون أنِّي فاعل بكم؟))؛ فيقولون: “أخ كريم، وابن أخٍ كريم”؛ فيقول – صلى الله عليه وسلم – ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))؛ ثُم يمنحهم أوسمةً للعفو، فيقول: ((من دخل البيت الحرام فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)).
عين جالوت الموقعة الفاصلة
وإذا ما تركنا فتْحَ مكة؛ لننظر إلى معركة أخري من المعارك الرمضانية، التي خاضها المسلمون وهم صائمون – نَجد موقعة “عين جالوت”، التي وقعت بين المسلمين بقيادة سيف الدين قطز وبين المغول، والتي تُعدُّ موقعة فاصلة في تاريخ الإسلام؛ حيث حَمَت المسلمين والعالم الإسلامي من الغزو التتري الغاشم، الذي كاد يفتك ببلاد الإسلام.
فقد غَزا المغول العالم الإسلامي، وأخضعوا العديد من مدنه، حيث قَضَوا على الدولة الخوارزمية، ومدينة نجارَى، وزحفوا إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسيَّة، فأسقطوها هي الأخرى، ولسقوط بغداد في أيدي المغول قصَّة سطَّرها التاريخ الإسلامي بدماء الشهداء والأبرياء، فقد أرسل “هولاكو” قائد المغول عام 1257م إلى الخليفة العباسي “المستعصم” يدعوه إلى التسليم قبل فوات الأوان؛ كما أرسل وزيره “ابن العلقمي”؛ ليجعل منه طابورًا خامسًا، وأعقب هولاكو تهديده بحصار بغداد، واعتمد على ما أحدثه “ابن العلقمي” من إهمال الاستعداد اللازم، ونشر الفزع، وإشاعة القول بأن المغول قوم لا يُهْزمون، وأن المصلحة في الخضوع لهم، وظلت مجانيق المغول تَقْذِفُ قلاع بغداد وحصونَها مدَّةَ أربعين يومًا حتَّى أحدثت فجْوَةً في أسوارها، وعندئذ أذعن الخليفة، وخرج لمقابلة هولاكو، ومعه أقاربه، وسلَّمه مدينة بغداد.
وأضمر هولاكو الغَدْرَ للخليفة ومدينته؛ فأمر بإخراج الجند الخَلَفِيِّ خارج بغداد بحجة إحصاء عددهم، ثُمَّ أنزل بهم القتل جميعًا، وفي صباح اليوم التالي أباح هولاكو بغداد لجنوده، فانتشر المغول في أحْيائها يقتلون الرجال، ويأسرون الأطفال، ويستحيون النساء، وظلت هذه الوحشية أربعة أيام بلياليها حتَّى امتلأت خيام المغول بالأسلاب والأنهاب والمغانم من الذهب والفضة والنساء، فضلاً عن رؤوس القتلى التي عمد الجند إلى اللَّهو بها على شواطئ نهر دجلة، وأخيرًا أمر هولاكو بقتل الخليفة المستعصم، وزالت الخلافة العباسية بذلك، وأصبح العراق الإسلامي تابعًا للمغول عام 1258م (656هـ).
وبعد سقوط بغداد زحف هولاكو بقواته إلى الموصل وحران والرها، وأعمل السَّيْف في أهلها، ثم استولى على حلب ودمشق وغيرهما من البلاد الشاميَّة.
وقد روى المؤرخ ابن الأثير حادثة، تدُلُّ على مبلغ ما نزل بالناس من الرعب والانهيار أمام الجيوش المغوليَّة، وهي أن المغولِيَّ كان يدخل القرية من القرى، وبها جَمْع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحدًا بعد واحد، ولا يتجاسر أحَدٌ أن يَمُدَّ يده إلى ذلك الفارس، وأن إنسانًا منهم أخذ رجلاً، ولم يكن معه ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتريُّ فأحضر سَيْفًا وقتله به.
بداية النهاية
ولم يكتفِ المغول بهذه المُدُن الإسلامية التي استولوا عليها، ففكر قائدهم في إخضاع مصر هي الأخرى تحت سيطرتهم، وبعث إلى السلطان قطز سفارة تَحْمِلُ الوعيد والتهديد، وتطلب الطاعة المطلقة، ولكن “قطز” الخوارزميَّ الأصل أجابه إجابة غير منتظرة؛ إذ قتل السفراء المغول، وجَهَّزَ استعداداتِه الحربيَّة، وأرسل طلائعَه من القاهرة بقيادة بيبرس، وزحف هو بالجيش الرئيس حتَّى تقابل مع المغول في رمضان عام 658هـ (1260م) عند عين جالوت، واستطاع ومن معه من المسلمين الصائمين الانتصارَ على المغول، وقتل قائدهم، وتقهقر المغول إلى دمشق وحلب، فتعقبتهم الفرق المملوكيَّة حتَّى أخرجتْهم من الأراضي الشاميَّة، ومنذ ذلك التاريخ زال الخطر المغولي عن بلاد المسلمين.
فهل بعد هذه الغزوات والمعارك، التي خاضها المسلمون في شهر رمضان من شكٍّ في أن الصيام له دور كبير في تربِيَة الرجال الأشداء، وتقوية الروح القتاليَّة والحربيَّة لدى المسلم؟

قد يعجبك ايضا