حروب اميركا الخاسرة من فيتنام الى سوريا واليمن (5)

 

احمد الحبيشي

ارتبط صعود سوريا كقوة إقليمية في الشرق الأوسط ، بحقبة الرئيس حافظ الأسد منذ وصوله الى السلطة بعد الحركة التصحيحية التي قادها في عام 1970 حتى وفاته في صيف عام 2000 ، مروراً بعهد الرئيس بشار الأسد ، وصولاً إلى الحرب الكونية التي تتعرض لها سوريا منذ عام 2011.
مرت سوريا في السبعينات والثمانينيات بأزمات واستحقاقات داخلية وخارجية عدة، بدءاً من خوضها حرب 6 أكتوبر عام 1973، إلى دخولها في الحرب اللبنانية عام 1976، وانفجار حركة إسلامية مسلحة داخل البلاد (1979 – 1982)، ثم مواجهة غزو إسرائيل في لبنان عام 1982 وتداعيات الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، واندلاع أزمة داخلية في الحكم عام 1984، وصولا ً إلى حرب الكويت عام 1990، وانتهاء بالحرب اللبنانية وانهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان حليفاً استراتيجيا لسوريا ومصدر أسلحتها الأكبر.
وشهدت سوريا خلال الألفية الثالثة كوارث مروعة رافقت عهد الرئيسين حافظ وبشار الأسد. فمن تشديد الحصار الاقتصادي والديبلوماسي، إلى غزو اسرائيلي للبنان إلى العراق وفلسطين ، إلى عمليات زعزعة طالت المشرق ولم تستثنِ سوريا، وصولاً إلى حرب كونية على سوريا.
بوصول حافظ الأسد الى السلطة بدأت مرحلة تثبيت أسس نظام قوي وتحقيق الاستقرار. واللافت للنظر أن الرئيس الأسد كان يمقت الطائفية ، ويعيّن كبار المسؤولين الذين يحيطون به من الطوائف الأخرى، كما عمل على فتح باب الإدارات والمؤسسات العامة لكل الطوائف فقد تسلّم رجال سنّة أعلى المناصب في حكمه الطويل، وكان أقرب أربعة أشخاص إليه من السنّة: مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وعبدالله الأحمر وبثينة شعبان.
في عامه الأول ، مدّ الأسد يده لأنصار صلاح جديد في الحزب ، ولقيادة ميشيل عفلق، بهدف توسيع المشاركة في بناء الحزب والبلاد، فاستجاب أكثر من ألفين من الكوادر الحزبية .
كان الأسد بعثياً قديماً يهمه أمر الحزب وتنظيمه وإدارته، ويؤمن بأن شرعية نظامه تستند بشكل رئيس على الحزب. فتأسست قيادة قطرية انتقالية لحكم البلاد مؤقتاً من 14 عضواً برئاسته، وتوسعت لاحقاً.
ازدهر البعث في عهد الأسد حتى بلغ عدد أعضائه في أوائل السبعينات 65 ألفاً، ثم تضاعف ست مرات، ووصل في العام 2000 إلى 1.4 مليون واربعمائة ألف عضو ، وشرّع دستور 1973 لمجلس نواب تمثيلي هو مجلس الشعب الذي بدوره ينتخب رئيس الجمهورية، وانتخب هذا المجلس وأعاد انتخاب حافظ الأسد رئيساً للجمهورية خمس مرات من 1970 وحتى وفاته عام 2000 ، وفي الوقت نفسه أشرك حافظ الأسد الحزب الشيوعي السوري والقوميين والوطنيين غير البعثيين في جبهة وطنية متحدة.
منذ قيام الحركة التصحيحية في سوريا بقيادة حافظ الأسد 1970 ــ 1971 أصبحت سوريا في سبعينيات القرن العشرين دولة ذات وزن عربي ودولي يحسب لها الحساب ، فيما تحقق المزيد من الاستقرار الداخلي والانسجام الاجتماعي. ولكن حلم البعث في تحقيق المجتمع الاشتراكي كان لا يزال بعيداً بسبب تفشّي الفساد في صفوف النخب الجديدة التي تسللت الى السلطة.
كانت حرب 1973 الحدث الأبرز في العقد الأول من حقبة الرئيس حافظ الأسد ، تلته الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية. أما العقد الثاني فقد شهد سلسلة معقدة من الأحداث ، أبرزها المواجهة مع إسرائيل في لبنان (1981 – 1984)، والحرب ضد الإخوان المسلمين (1980 – 1982)، وأزمة رفعت الأسد (1983 – 1984)، والحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1987). وكان من نتائج تحديات الثمانينات صعود دور الأجهزة الأمنية في الدولة السورية والتحّول نحو النظام الأمني.
أما المرحلة الثالثة (1990 – 2000) فكانت محطة تحولات وخيارات حيوية لسوريا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وحرب الكويت، وإطلاق محادثات السلام في الشرق الأوسط ، والتراجع عن الاقتصاد الموجه والتحول نحو التحرر وإطلاق المبادرات الفردية.
أعطى الرئيس حافظ الأسد اهتماماً كبيراً لخطط البناء الاقتصادي في مجالات الصناعة والبناء والنفط ، وتنفيذ ما عُرف بـمشروع (سد الفرات) الذي استغرق انجازه عشر سنوات منذ العام 1969 ، وما رافق ذلك النمو من تحسن الوضع المعيشي في دمشق العاصمة التي حصلت على الحصة الكبرى من موارد الدولة، وصولاً إلى تحسن أوضاع المحافظات ومكافحة الفساد وظاهرة التهريب بين لبنان وسوريا.
انتهى الدور القيادي القومي لمصر بعد حرب اكتوبر 1973، حيث كان لتوقيع اتفاقيتي كامب ديفيد وسيناء 2 تداعيات كبيرة على المنطقة العربية. وكان الأسد نادماً على ثقته بكيسنجر، وحريصاً على حماية بلاده من هذه التداعيات التي باتت زلزالاً يهز استقرار المنطقة ويفقد العرب صمام أمانهم الذي كانت تمثله مصر.
عادت حالة اللاسلم واللاحرب بأسوأ من السابق لأن النظام العربي الذي قادته مصر منذ 1955 قد انهار ، الأمر الذي أدّى الى انهيار الصف العربي واشتعال أزمات عدة في داخله دفعة واحدة ، من أبرزها احتدام الصراع بين مصر من جهة وكلّ من سوريا ومنظمة التحرير وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي من جهة أخرى، وكذلك بين سوريا والعراق، وبين الأردن والفلسطينيين.
انشق الصف العربي إلى محاور متناحرة ، من بينها جبهة الصمود والتصدي بقيادة سوريا، وانفرط عقد منظمة التحرير المؤلفة من عدة فصائل مقاتلة جراء الصراعات العربية ، وما ترتب على ذلك من اقتتال بعض الفصائل الفلسطينية بالسلاح. وكان لبنان الضحية الأكبر لتلك الصراعات ، إذ أصبح ساحة للصراعات العربية – العربية وللصراع العربي – الإسرائيلي ، ولا يزال يدفع الثمن إلى اليوم.
صاغت الدولة السورية بقيادة الرئيس حافظ الأسد استراتيجية قومية دفاعية جديدة وفق مبدئين أساسيين :
المبدأ الأول تحقيق التوازن الإستراتيجي، والمبدأ الثاني الصمود والتصدي.
والثابت ان هذه الاستراتيجية التي صاغها الرئيس حافظ الأسد وضعت حداً لحلم إسرائيل الكبرى الذي بدأ مع رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن وتكتل الليكود عام 1977 وانتهى عام 1987
منذ العام 1975 بات لبنان ساحة المبارزة الكبرى بين المشروعين، السوري والإسرائيلي. في تلك الفترة كان الأسد بحاجة إلى اعتراف أميركي بالدور الإقليمي الذي سعت إليه سوريا في مقابل أن تكون شريكاً لأميركا في السلام وعامل استقرار في المنطقة. ولقد أثبتت سوريا مقدرتها على إنهاء حرب لبنان الذي بات يتمتع بالسلم الأهلي، ورغم كل شيء، كان الثمن ضرورياً كي لا تُحاصر سوريا وتتفرد إسرائيل بهيمنتها على الساحة اللبنانية. فكان الدخول إلى لبنان خطوة مهمة لصعود سوريا الإقليمي.
رافق الاستحقاقات الإقليمية ، بعد اشتعال الحرب اللبنانية عام 1975، واتفاقات كامب دافيد وغزو إسرائيل للبنان في مارس 1978، احتدام أزمة داخل سوريا بدأتها الجماعات الإسلامية وأبرزها تنظيم الإخوان المسلمين على نحوما سنأتي اليه في الحلقة القادمة.
انتقل تحدي الإخوان المسلمين إلى العلن في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينات، حيث هاجموا من موقعهم المذهبي السُني، نظام الحكم الذي يرأسه حافظ الأسد ووصفوه بأنه «حكم علوي» كما وصفوا الأفكار القومية والعلمانية والديمقراطية بأنها جريمة أخرى تعكس هرطقة البعثيين وكفرهم.
كان حزب البعث يحقق صعوداً غير مسبوق وخاصة في أوساط السنة منذ الخمسينات، ما أغضب الإخوان والأميركان الذين صعّدوا عداءهم للبعث. وقد كانت المواجهة بين البعث العلماني وحركة «الإخوان المسلمين» الدينية وكأنها قدر لا يُرد، إذ منذ خروج «الحزب السوري القومي الاجتماعي» عام 1955 وإضعاف «الحزب الشيوعي» خلال 20 عاماً من الانقلابات بعد الاستقلال ، بقي الإخوان خصماً رئيساً للفكر القومي والنظام الجمهوري في سوريا.
في عام 1964 شهدت سوريا انتفاضة طائفية بقيادة الإخوان المسلمين دعمتها ومولتها المخابرات الأميركية والسعودية ، سرعان ما تحولت إلى جهاد ديني مسلح ضد السلطة ، لأن الإخوان اعتبروا حكم «البعث الكافر» إهانة للذات الإلهية ، وقد أجمع المؤرخون على تفسيم الصراع بين تنظيم الإخوان المسلمين والدولة السورية إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى (1976 – 1979)، وبدأت بشرارة انطلاق حرب جهادية دينية ضد البعثيين ومكاتب الحزب ومراكز الشرطة والسيارات والثكنات العسكرية والمصانع والخبراء السوفييت ، وأي هدف يمكنهم الوصول إليه.
والمرحلة الثانية (1979 – 1980)، فقد تركزت في مدينة حلب إذ كانت حلب نقطة تحول كبيرة في الحرب بين الدولة والجماعات الدينية .
أما المرحلة الثالثة فقد فتحت المعركة على مصرعيها، عندما أصبح الرئيس حافظ الأسد نفسه هدفاً للجماعات الاسلامية. ففي 26 يونيو 1980 جرت محاولة لاغتيال الرئيس حافظ الأسد أمام قصر الضيافة في دمشق أثناء استقباله رئيس دولة أفريقية،كما وأحدثت هذه المحاولة غضباً عارماً في أوساط قيادة حزب البعث وأركان الدولة ورفعت دعوات إلى الانتقام، إذ أن حرب الإخوان المسلمين على النظام وصلت إلى رئيس الجمهورية.
هنا بدأت المرحلة الثالثة (1981 – 1982) حينما انتقلت الحرب إلى داخل دمشق نفسها. وكانت معركة مدينة حماة عام 1982 المواجهة الحاسمة بين الدولة السورية من جهة والإخوان المسلمين من جهة أخرى ، ويمكن تلخيص معركة حمص وحماه بأنها كانت بداية المشروع الأميركي الصهيوني السعودي الذي استهدف تفكيك سوريا من خلال السعي لإقامة دولة اسلامية في حمص وحماه وحلب بقيادة الإخوان المسلمين وحلفائهم من الجماعات الاسلامية الجهادية في سوريا.
وبوسع كل من يستمع الى خطاب الرئيس حافظ الأسد بعد نجاح الجيش العربي السوري في تحرير حمص وحماه ، ودحر الفتنة التي قادها الاخوان المسلمون عام 1982 بدعم خارجي ، أن يكتشف القواسم المشتركة بين تلك المؤامرة والحرب الكونية التي تتعرض لها سوريا منذ عام 2011 على نحو ما سيأتي في الحلقة القادمة.
نص خطاب الرئيس حافظ الأسد
بعد تحرير حمص وحماه 1982:
ايها الاخوه المواطنون
ايها الأبناء
لا اخطر على الاسلام
من أن تشوه معانيه ومضامينه
وانت تلبس رداء الاسلام
لا اخطر على الاسلام
من أن تشوه معانيه
وأنت تلبس رداءه
وهذا ما يفعله الاخوان المسلمون
هذا ما يفعله الاخوان المجرمون
يقتلون باسم الاسلام
يغتالون باسم الاسلام
يذبحون الأطفال والنساء والشيوخ باسم الاسلام
يقتلون عائلات بكاملها باسم الاسلام
يمدون يدهم الى الأجنبي
والى عملاء الأجنبي
والى الأنظمة الأميركية العميلة على حدودنا
يمدون الى هؤلاء ايديهم
ليقبضوا المال .. وليأخذوا السلاح
ليغدروا بهذا الوطن
ليقثلوا المواطنين الذين عاشوا معهم في وطن واحد .. في مدينة واحدة .. في حي واحد.
واحيانا في بيت واحد.
هذا ما يفعله المجرمون من الاخوان المسلمين.
يمدون ايديهم الى الأجنبي مباشرة
ويمدون ايديهم الى وكلاء أميركا على حدودنا.
يقبضون المال ويأخذون السلاح
ليغتالوا هذا الوطن
ليقتلوا هذا الوطن
ليضعفوا هذا الوطن
في وقت تقفون فيه وحدكم
في مواجهة أشرس عدو .. وأشرس عدوان.
———–
يتبع

قد يعجبك ايضا