وأخيراً تم اللقاء (1-2)
د. أسماء الشهاري
يُحكى أن هناك فتىً يانعاً تحدى طائرةً حربية، حيث كان يقود دراجة نارية بسرعة جنونية ليس حرصاً منه على حياته بينما هي تطارده وتلقى عليه القذائف ولكن لكي يقوم بإيصال المؤنة إلى رفاقه المحاصرين، ها هو الفتى الصغير بعمره والكبير بشجاعته وإقدامه يطير من فوق الأحجار والصخور تارة ويسقط من فوقها ويتدحرج تارة ثانية وقد أصابه من الجراح ما أصابه، لكنه يعود إليها ويواصل طريقه غير آبهٍ بتلك الطائرة ولا بشيء أصابه ويصل بعناية الله وقوة عزيمته إلى غايته”..
لم تكن هذه قصة خرافية عن بطل خارق في أحد أفلام الأكشن التي تصرف عليها المليارات، لكنها إحدى القصص الواقعية لبطل خارق حقيقي لا يخشى الموت ولا يعرف المستحيل، هزم بقوة يقينه بالله وبشجاعته وشدة بأسه أعتى أنواع الطائرات وأكثرها تطورا والتي تصرف عليها المليارات ويقال أنها فخر الصناعات فجعل منها أضحوكة ومسخرة القرن العشرين عبر القارات!.
نعم هذا هو أحد أبطال قصتنا والذي لا ندري أكان ملاكا بأجنحة من هيبة يُحلِّق بها كيفما يشاء، أم أن الملائكة هي من كانت تحمله على أجنحتها بأمر الله فتوصله أينما يشاء!.
لم تكن هذه القصة هي الوحيدة ولكنها واحدة من قصص أشبه بالمعجزات التي سطرها أبطال قصتنا الأخوان الشهيدان من أسرةٍ واحدة خليل وهيثم علي مقحط، والتي ستظل أنموذجاً فريدا خالدا تتناقله الأجيال على مدى الأعوام عن كيف تُدرس الكرامة، ويُصنعُ المجد،ويُسطرُ النصر؟
فهيا بنا نغوص إلى أعماق هذه القصة التي حوت في طياتها هذا الدُّر الثمين لنستلهم منها العبر التي ستظل منارة فخرٍ عبر السنين.
العودة من الموت :
بعد صولاته وجولاته وتنكيله بالأعداء حصل ما لم يكن يتوقع في عدن أيام العيد تلك المرة والتي لا تزال عدن مسلوبة من قبل الأعداء والمحتلين إلى الآن. كان هيثم من المجاهدين الذين ثبتوا في أرض الميدان ولم يعودوا لقضاء العيد مع أهلهم، ووجد نفسه في عمارة مهجورة هو واثنان من زملائه وقد أحاط بهم الدواعش والمرتزقة من كل مكان!
صمد الثلاثة الأبطال لمدة ثلاثة أيام من دون ماء ولا طعام حيث بلغ منهم الجوع والعطش مبلغهما وكان أصغرهم الذي يبلغ خمسة عشر عاما يهم بتسليم نفسه إلى الأعداء لولا تصبيرهما إياه كما وجدوا كمية قليلة جدا من الماء فأعطوه إياها، انقضت الأيام الثلاثة وعلموا أنهم لن يستطيعوا التحمل أكثر من ذلك من دون طعام ولا شراب، وفي أثناء ذلك وجدوا بيت شيخ كبير في السن بالقرب من العمارة المهجورة ولم يجدوا بُدا من الالتجاء إلى منزله واستعطاف قلبه عليهم، ذهب الثلاثة إليه وقاموا بوضع أسلحتهم التي كانت قد نفدت منها الذخيرة بين يديه ، فقالوا له :يا عم نحن في وجهك لا يوجد معنا أحد ونكاد أن نهلك من الجوع والعطش، فما كان من ذلك الرجل العجوز إلا أن قام بطمأنتهم وقال لهم بكل ثقة :الله المستعان أنتم مثل أولادي وفي وجهي ونحن كلنا يمنيون وكلنا مسلمون، هونوا عليكم سأخرج الآن لإحضار طعام العشاء لكم،وفعلا جلب الرجل العشاء وبدأوا في تناول الطعام بنهم كبير لشدة الجوع، وبينما هم منهمكون في تناول الطعام حصل ما لم يكن في الحسبان!
حضرت مجموعة من الدواعش وهجمت عليهم وكان ذلك العجوز هو من قام بإحضارهم والتبليغ عنهم، فبدأوا بإطلاق النار لإرعابهم وضربهم وركضهم وشتمهم وقد تجمعوا عليهم تجمع الضباع ثم بدأوا بأخذهم معهم. كان هيثم يعلم علم اليقين بأن ذلك العجوز هو من بلغ عنهم، لكن وعلى الرغم من صغر سنه فقد تصرف بذكاء شديد وكأنه إلهام من الله وتأييد منه سبحانه، قال هيثم للعجوز :أعلم أنك لست من بلغت عنّا وأنهم علموا بوجودنا من تلقاء أنفسهم، يا عم نحن أولادك ونحن في وجهك وليس لنا أحد غيرك هنا.. نحن في جارك يا عم لا تتركنا..
قد يقول البعض ماذا سيستفيد من توجيه هذا الكلام إلى رجل خائن منعدم الضمير، لكن كلمات هيثم وتوسله كان لها أثر السحر في نفس ذلك الرجل العجوز، ربما أنها هزته من الداخل أو تسببت له في شعور كبير بتأنيب الضمير مع هؤلاء الفتية الصغار خاصة وهو يعلم أي مصير ينتظرهم!
تعرض الثلاثة للضرب والتعذيب والشتم والإهانة أثناء أخذهم إلى زنازين تحت الأرض فيها الكثير من الأسرى المجاهدين والتي لا سبيل إلى أن تزورها الشمس أبداً، لكنهم قد تفضلوا عليهم بإعطائهم كشافات لكي يتمكنوا من قراءة القرآن والملازم “الداعشية” لكي يقوموا بهدايتهم!
كما أنهم لم ينسوا أن يحضروا شيوخهم إلى السجن لكي يقرأوا القرآن عليهم ويشفونهم من “السحر الحوثي” الذي وقع عليهم _من وجهة نظرهم طبعاً!
ألوان وأنواع من البلاء والتعذيب والتمحيص الشديد تعرض له بطل قصتنا، تتصدع منه الجبال ويذوب منه الحديد، بَيدَ أن هيثم كان قوي الإيمان والارتباط بالله، عظيم الهمة، شامخ الهامة، فما جزع لما أصابه في سبيل الله وما قل عزمه وما لان.
بفضل الله ولطفه بهيثم ورفاقه فقد سخر لهم في قلب ذلك الرجل المسن والذي كانت له كلمة مسموعة عند الدواعش في ذلك الحين فربما كان أحد قياداتهم حيث دائما ما كان يزورهم إلى الزنزانة ويوصي رفاقه عليهم ويقول لهم :إلا هؤلاء لا تمسوهم بسوء، هؤلاء في وجهي وفي جواري..
وعن طريق الرجل العجوز نفسه استطاع هيثم أن يتواصل مع أهله الذين كادوا يجنون وهم يبحثون عن جثته بين المفقودين في المستشفيات ولم يعرفوا مصيره!
لكن وعلى الرغم من سماحهم لتواصل هيثم بأسرته إلا أنهم ولقبحهم فقد استغلوا ذلك في ابتزاز أهله وترويعهم وكان ذلك أحد أساليب التعذيب الذي كانوا يتفننون فيه بشكل عجيب!
تواصلوا مع شقيقه الأكبر، وفي مكالمة قالوا له :نحن أنصار الشريعة، ها هو هيثم يرتدي البدلة الحمراء وسوف نقوم بإعدامه الآن. يرد عليهم :أنتم تكذبون دعوني أسمع صوته. وإذا به هيثم فعلا فينهار الأخ ويبكي على مصاب أخيه، فما يكون من هيثم إلا طمأنة أخيه ويقول بكل يقين: هون عليك يا أخي لا تقلق، اطمئن والله أني سأخرج وسأعود إليكم، أرجوك تماسك ولا تبكي.
يتحدث الأخ عن مشاعره بعد سماع تلك الكلمات بتلك القوة من أخيه الأسير: شعرت حينها كأني أنا من كنت في الأسر رغم أني حُر طليق وأن هيثم كان يعرج في ملكوت العزة والحرية على الرغم من وقوعه في الأسر فكان هو من يواسيني ويثبتني وليس العكس!
وها هي والدته أيضا عندما تحادثه يقوم بطمأنتها ويقول لها بكل ثقة أنه سيخرج ولن يصيبه مكروه، وهو من كان يقتحم الموت ولا تأخذه أي رهبة طالما وقد نذر نفسه في سبيل الله.
كانوا يقولون لهم وهم في الأسر بأن صنعاء قد سقطت وأن الأمور كلها قد صارت بيد المرتزقة والغزاة، فيسبب ذلك ألماً وإحباطا شديدا للمجاهدين الواقعين في الأسر، فقال له أحدهم :هل نحن على الحق أم على الباطل؟ فيجيبه هيثم :هل يزيد على حق أم على باطل؟، المجاهد الأسير :على باطل، هيثم بكل ثقة وعزة ودون أن يشعر بذل ولا مهانة: إذن والله أننا على الحق وأن الجبهات لا تزال مفتوحة وأنهم لم يصلوا إلى صنعاء ولن يدخلوها.
ليس هذا كل شيء، فقد تعرض هيثم ورفاقه لأهوال تذهل منها الولدان وتشيب، فدعونا نكتشف ما خلف الكواليس ونتعمق في أسرار الأسر والتعذيب.
إن تعامل هؤلاء المسخ مع الأسرى لا يدل إلا على أنهم وحوش ضارية ذات نزعات شيطانية قد انسلخت من إنسانيتها تماما وظلت تتدرج في الانحدار حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من التلذذ بتعذيب الضحية بكل ما أمكنها وبما يجعل اللسان يقف عاجزا عن وصف مدى قبحها أو التعبير عنها وعن أفعالها الإجرامية!
لم يكن من المسموح لهيثم وبقية المجاهدين الواقعين في الأسر الدخول إلى دورة المياه إلا مرة واحدة خلال اليوم وقد تم ربط أحد اليدين مع قدم واحدة ولا يدخل الرجل منهم إلا وفوق رأسه ثلاثة أو أربعة من الجبناء الحمقى يقومون بركله ويرفعون أسلحتهم فوق رأسه، الطعام كذلك كان مرة واحدة خلال اليوم وكان في أفضل حالاته عبارة عن رغيف جاف أو اثنين، ولم يكن هناك فرصة حتى يهنأوا أثناء تناوله فقد كان الدواعش يضعون السكاكين على رقابهم ويقولون لهم سنقوم بذبحكم فور انتهائكم من الطعام ويطالبونهم بأن يتوبوا!
وهذا ما حصل مع بطل قصتنا هيثم ذات مرة عندما كان يتناول الطعام قاموا بربط يديه إلى الخلف و وضعوا السكين على رقبته وأمسكوا بشعر رأسه وسحبوه إلى الخلف وأخبروه بأنهم سيذبحونه لأنه “مجوسي رافضي”،كان العرق يتصبب من كل شعره في جسد هيثم وقد شعر فعلا أنهم سيقومون بذبحه ولم يشك في ذلك، وبينما هو ينتظر الموت قاموا بركضه وقالوا سينظرون في أمره بعد انتهائه من الطعام الذي لم يقدر أن يتناول شيئاً منه بعد ذلك بطبيعة الحال.
كم كان صعبا ومؤلما إلى حد الفجيعة ما رآه وما لاقاه الشهيد العظيم هيثم علي مقحط خلال الأسر فهاهو أحد رفاقه الذين كانوا معه عندما تم القبض عليهم قد تم ذبحه وهو من لم يجتز الخامسة عشر من عمره على الرغم من أنه كان من الذين شفع لهم ذلك العجوز إلا أن ذنبه كان لا يغتفر بنظر أولئك القتلة المتعطشين للدماء حيث كان يرفع صوته بشعار الحق وعلى الرغم من أن رفاقه حاولوا منعه إلا أنه كان شجاعا جدا وكان رغم صغر سنه أكبر من كل أولئك الحمقى المجرمين حيث قال لرفاقه :ماذا بكم هي نصف ساعة فقط وأكون بعدها بين يدي الإمام علي عليه السلام.
وهكذا تم ذبحه وإلقاء رأسه الشامخ العظيم إلى بين أيدي أصحابه، فما أصعبه من موقف تعجز كل تعابير الدنيا عن بلوغ مدى بشاعته و وحشية مرتكبيه.
لم تكن هذه عملية الذبح الوحيدة بل كان هناك ما يفوقها إجراما و وحشية حيث في كل يوم يتم إخراج الأسرى إلى الحوش والعد حتى رقم معين ومن يقف الرقم عنده يتم ذبحه وجز رأسه أمام أعين بقية الأسرى ثم يتم رمي رأسه إليهم في واقعة تتشقق منها السماء ، ففي كل يوم ينتظر أسيرا ذات المصير بينما مصاصو الدماء يتلذذون بذلك التعذيب النفسي الرهيب الذي تخرُّ الجبال منه هدّا ويتفاخرون بالقتل والرقص على الأشلاء!
ستة وثلاثون أسيرا من أبناء الجيش واللجان الشعبية تم ذبحهم ورمي رؤوسهم أمام ناظري هيثم ورفيقه، فأيُّ قلب يتحمل ما تحملت يا بطلنا العظيم!
كما كانت هناك طقوس معينة يمارسها أولئك المسوخ الشياطين قبل إعدام ضحاياهم، حيث كانوا يلبسونهم ملابس الإعدام لمرات عديدة قبل أن يقع الاختيار عليهم في نهاية الأمر ويقومون بمحاكمتهم على الرغم من أن الحكم النهائي في نهاية المطاف واحد وهو “الذبح”!
لم يكن الجميع يخضع للمحاكمات فمن يثبت بأنه عسكري لا محاكمة له، حيث تم أخذ العساكر إلى حضرموت وإعدامهم هناك.
أما هيثم فكان من ضمن الذين ارتدوا بدلة الموت مرات ومرات وتمت محاكمته، وكانوا يلصقون أبشع التهم به كونه من “الحوثيين الرافضة المجوس”، فكان يرد عليهم بأنها تهم باطلة، فيقولون له أنت لا تزال صغيرا ومن الأتباع ولا تعرف حقيقة هؤلاء وحقيقة ما يقومون به.
هيثم الذي كان له أسلوب وطريقة تأسر قلوب حتى أعدائه، والذي كان يجيبهم بكل صدق على كل أسئلتهم من دون أن يبالي ولم يتردد أو يخف هنيهةً واحدة، فما زادوا به إلا انبهارا لرباطة جأشه وإبائه، فما يكون ردهم إلا أن يقولوا له :أنت فتى طيباً يا هيثم لا نعرف كيف تورطت مع هؤلاء. ويعتقدون أنه “مغرر به” وأنهم “قد سحروه”!
ها هم يربطون يديه إلى الخلف ويلبسونه ملابس الإعدام هو ورفيق جهاده وزنزانته مرة أخرى ويقودونهم إلى زنزانة منفردة، وبينما هم ينتظرون الموت يتفاجأون أنهم يقومون بإعطائهم ثلاث وجبات بدلا عن وجبة واحدة وبدلا من الخبز اليابس الذي استمر لمدة سبعة أشهر ونيف فإن اللحم هو وجبة الطعام ثلاث مرات في اليوم ولمدة أسبوعين!
سأله صديقه :لماذا يطعمونا اللحم، ما الذي تعتقد أنهم سيفعلونه بنا؟ فيرد عليه :لا أعلم يا صديقي ربما يريدون أن نتغذى لنكون عوضا عن أضحية العيد، ليس بأيدينا شيء دعنا نأكل وحسب، عوضاً عن أشهر الحرمان.
تم نقل هيثم ورفيقه إلى البيضاء، وكان يُسمح لهم بمكالمة أهلهم الذين لم يتورع أولئك المجرمون للحظة عن ابتزازهم وإخافتهم، وفي كل مرة ما يكون من هيثم إلا طمأنة أهله وتثبيتهم وإخباره إياهم أنه سيعود إليهم من دون شك ويقوم بالمزاح معهم أيضاً قائلا لوالدته “لا تخافي يا أمي والله أني أستطيع التأثير عليهم كلهم مثل ما فعلت مع الرجل العجوز هههههه ”
بعد ذلك تمت مبادلة هيثم وصاحبه هناك مع أسرى من بيت الحميقاني في البيضاء.
فرحة اللقاء وصدمة الموقف :
وصل هيثم إلى بيته وأسرته أخيراً بعد معاناة وفراق وترقبٍ طويل والشوق يكاد أن يُردي بهم، وحال وصوله استقبله أخوته بإطلاق الرصاص وأخواته وأمه بالبهجة والزغاريد. رأى هيثم كل تلك اللهفة عليه فكانت ردة فعله صادمة جداً لهم وهو ما لم يقدروا تقبله بل كان جارحا وصادما لهم، فأول ما وقعت عيناه عليهم، قال :لا تفرحوا كثيراً والله أني راجع بعد أسبوع!
علت الدهشة وجوه الجميع وهم يتساءلون: لماذا يقول ويفعل ذلك؟
قالت له والدته :حسنا تعال إلى حضني بالأول.
فرد عليها :يا أمي دعيني أُنكل بأعداء الله.
لم يكن أهل هيثم قد عرفوا بعد حقيقة ما لاقاه في الأسر وأن له ثأراً مع السفاحين الذين كانوا يقطعون رؤوس رفاقه أمام ناظريه، وأنه يريد أن ينتقم لهم خاصة صديقه المجاهد الصغير ذو الخمسة عشر عاما.
الشوق يقتلني فلا تحرميني يا أمي :
مر أسبوع على عودة هيثم من الأسر وكانت المفاجأة!
تفاجأ الجميع أن هيثم كان جادا في كلامه وأنه قد عزم أمره على الالتحاق بجبهة مارب هذه المرة، لكن والدته كانت رافضة للأمر بشكل تام، فما كان منها إلا أن تواصلت بخال هيثم وعمه ليكونا معها ويساعداها في منع هيثم من الذهاب.
بالمناسبة هيثم لم يكن حبيب قلب والدته فحسب بل إن هذا هو إجماع جميع أفراد الأسرة فقد كان مميزا جدا وقد تعلقوا به أيّما تعلق فقد كان مرحا ولطيفا وخفيف الظل حتى في دعاباته وشقاوته التي كانت تسعدهم كثيراً ولم يكونوا يتضايقوا منها أبدا بل على العكس، لقد كان يمثل مصدر جمال وسعادة لا توصف لجميع أفراد أسرته.
وبالعودة إلى حديثنا فقد قامت والدة هيثم بوضع بزته العسكرية في حجرها بغرض أن تخبئها وتمنعه من الذهاب، وكانت تقول للحاضرين عندها ومن بينهم والده وعمه وخاله وأخوته: امسكوا ابني وامنعوه من الذهاب أرجوكم، لا تدعوه يذهب، ويقول لها هيثم بأسلوبه المازح الذي يعرفه الجميع :هل تعتقدي إن أخذتي البدلة العسكرية أنكِ ستمنعينني من الذهاب، أستطيع الذهاب بدونها،
ويرد عليه الجميع بمن فيهم والده :لن تذهب بدون رضا أمك يا هيثم.
وعلى الرغم من الإصرار الشديد من والدة هيثم لمنعه فقد كان هيثم أشد رغبةً وإصرارا على الذهاب ما جعل جميع الحاضرين ينظرون بدهشة إلى تصميمه ويترقبون ما ستؤول إليه الأمور.
كانت أم هيثم تقول :ابني مجاهد في مارب (وهو خليل البطل) ، والثاني جريح (وهو قحطان أصغر من هيثم) والثالث رجع للتو من الأسر ولم أشبع منه بعد.
وسنأتي للحديث عن خليل وقحطان بعد أن نعرف هل نجح هيثم في إقناع والدته أم لا؟
كان رفاق هيثم المجاهدون ينتظرونه لكي ينطلق معهم إلى جبهة مارب، وكان هيثم يخشى أن يقوموا بتركه لتأخره عن اللحاق بهم فكان يتواصل معهم ويتوسل إليهم أن ينتظروه ولا يذهبوا بدونه.
تواصل عم هيثم مع أحد العلماء وأخبره بأمر هيثم وحال الأم مع أولادها، فكان رده ألا يذهب هيثم إلا بإذن والدته، فقال عمه :سمعت يا هيثم ماذا قال العلامة؟
كان الجميع ينظرون لمحاولات هيثم مع أمه وعلى الرغم من عدم رضاهم لأنه لم يرجع من الأسر إلا من اسبوع فقط إلا أنهم لم يكونوا يمتلكون شيئا أمام رغبة هيثم وتصميمه.
لم ييأس هيثم رغم كل شيء فقد كان شوقه إلى الجبهات يفوق قمم الجبال الشاهقة،
انتظر هيثم حتى حان وقت صلاة المغرب وقام الجميع للصلاة فلم يُصلِ معهم ولحق والدته إلى غرفتها فقام بإخراج أخته وأغلق باب الغرفة، ودار بينهما الحوار التالي :
هيثم :لماذا تريدين منعي يا أمي؟
الأم :أخاف عليك.
هيثم: انظري يا أمي إلى هذا وهذا وانظري هنا وهنا (بدأ هيثم يري والدته علامات وآثار الجراح التي على جسده والتي لم يكن قد أراها إياها من قبل، منها ما هو في رقبته حيث كان “الدواعش” يجرحونه بالسكين أثناء تهديده بالذبح، ومنها ما هو في كتفه وساقه، وهي جراح كانت تصيبه أثناء توصيله للمؤنة بالدراجة النارية أو الطقم).
ثم قال لها :هل خفتي الآن يا أمي؟
لقد حفظني الله عندما كنت بين أيدي “الدواعش” وعندما كنت أتقلب وأنا على متن الدراجة النارية أو الطقم وتصيبني الشظايا، لقد حفظني الله من كل ذلك، يا أمي هل تستطيعين أن تمنعيني من الموت قد أشترغ بالريق أو تصيبني رصاصة طائشة هل تستطيعي أن تمنعيني من الموت؟ هل تستطيعي أن تحفظيني؟
الأم: لا
هيثم: إذن أرضي عني يا أمي،اسمحي لي أن أذهب، لا أريد أن أذهب إلا برضاك إذا لم تسمحي لي لن يأتي عليَّ الصباح إلا وقد أصبت بالجنون أو مِت من القهر.
هيثم يبكي ويستمر بالقول لوالدته :لا تحرميني يا أمي، الله غرس فيني حب الجهاد هنا، ويشير إلى قلبه.
أرضي عني يا أمي.. أرضي عني، ثم أخذ قدميها وأخذ يقبلها في قاعها..
الأم وهي تبكي :هيثم.. كم أتمنى والله وأني لم أنجبك.
هيثم :وأنا أتمنى وأنَّ الله لم يخلقني ولا قذف حب الجهاد في قلبي.
قامت الأم بضم ولدها وتقبيله، ثم قالت :استودعتك يا رب، من يدي إلى يديك يا أرحم الراحمين ومسحت على جسده وهي تقول ودعتك الله.
أخذ هيثم حقيبته وغادر المنزل مثل البرق ونسي بدلته عند والدته حيث لم تكن غايته بل كان غايته رضاها عنه وذهب إلى رفاقه الذين ينتظرونه لكي ينطلقوا جميعا إلى جبهات العزة والكرامة.
دخلت الأم على من في الغرفة وهم ينظرون إليها ويبتسمون ويقولون في أنفسهم “استطاع أن يؤثر عليها مثل ما فعل على الرجل العجوز”..
يالها من أم عظيمة قدمت ثلاثة من أبنائها في سبيل الله.. اثنان في جبهة مارب وهم هيثم وخليل، وقحطان كان أصغر من هيثم والذي كاد أن يُجن عندما كان أخوه في الأسر، ولم يطق صبرا حتى انتهت امتحانات الثانوية العامة وقد كان ذكيا جدا وحصل على معدل 92%، حتى انطلق بعدها إلى الجبهة لكنه أصيب بكسر في الحوض، وعندما التحق بدورة تدريبية فيما بعد، أخبروه بعدم مقدرته على الالتحاق بالجبهات ثانية بسبب إصابته لكن ذلك لم يمنعه من أن يلتحق بالأمنيات داخل صنعاء، فسلام على أم عظيمة أنجبت هؤلاء العظماء.
الجبهة ولا غير الجبهة تليق بي:
بينما هيثم في جبهة مارب ينكل بأعداء الله، اتصل بأهله ذات يوم لكي يشاهدوه في قناة المسيرة، وبينما هم بالانتظار إذا بهيثم في الصفوف الأمامية والرصاص من كل جانب، تسمّر الجميع، وإذا بوالدة هيثم تقول :يا إلهي انظروا هيثم في مقدمة الصفوف ويقوم بالتقدم بشجاعة منقطعة النظير، يا رب احفظه ورفاقه..
لم تكن أسرة هيثم هي الوحيدة التي شاهدت المقطع، فعندما شاهده بعض قيادات المجاهدين، قالوا :انظروا هذا هيثم، من سمح له بالذهاب ونحن نجهز له عملاً هاماً في صنعاء ولا يوجد أفضل من هيثم نثق في أمانته وإخلاصه.
عاد هيثم إلى صنعاء بطلبهم وروحه لا تزال تحلق فوق الجبهة وقلبه لا يزال يخفق فيها..
وكعادته يمازح والدته فور وصوله وهو يعلم أنها بالكاد رضيت له بالذهاب إلى مكان عشقه الأزلي :لم أترك الجبهة إلا لأنهم استدعوني وقالوا أن معي هنا عمل أهم.
ترد عليه والدته :المهم أنك وصلت، تعال إلى بين أحضاني، أهلا بك يا ولدي الغالي..
استمر هيثم في عمله بصنعاء لبضعة أشهر، وعلى الرغم من أنه عمل مهم وكبير إلا أن من عشقت روحه التحليق في البريّة والتنكيل بأعداء الله في ساحات العزة والبطولة لم يكن ليرضى ببقائه بعيداً عنها، وفي كل يوم يمر تزداد لهفته وشوقه إلى الجبهات أكثر فأكثر.
كان الشهيد أبو ذو الفقار المشرف على القسم الداخلي في أحد السجون، وكان مثل السهم فقد كان ثقافياً بامتياز وخطيباً بامتياز وأمنياً بامتياز، كان في قمة التواضع والطيبة والأخلاق مع زملائه وكان يقوم بإيقاظهم لتطبيق برنامج رجال الله، ويقول لهم :الذي لن يطبق البرنامج، لن يشارك في القتال في الجبهات.
كان الوحيد الذي يمضغ القات ويجلس مع المسجونين، وكان يخطب فيهم ويأمهم للصلاة يؤمهم معاملة أخ لأخوته وكان حريصاً جدا أن يوصل هدي الله إليهم، وكان يتابع قضية كل سجين، ويقول أنه سيقوم مع المظلوم بكل ما يستطيع.
قام مرة باستجواب المسجونين كل على حدة، ولم يكن يدري أو يخطر في باله إلى ماذا سيتوصل؟ وإذا به يتمكن من الكشف عن خلية إرهابية ووكر إرهابي كبير من دون أن يكون عنده أدنى فكرة عن ذلك من قبل، بعد الاعترافات ذهب غير موقن بما حصل عليه منهم فإذا به يتفاجأ بأنها حقيقة، وإذا به يعثر مع أجهزة الأمن على كمية هائلة من الذخيرة والمتفجرات والأسلحة والأموال السعودية والإماراتية والتي ذكرته بحال الكثير من المرتزقة في جبهات المواجهة، الذين كان يُقتلون على أيدي رجال الله أولو البأس الشديد وأموال الخيانة لله ولدينه ولشعبهم ووطنهم في جيوبهم لم يستفيدوا منها بشيء خسروا الدنيا والآخرة.
لم يلبث هيثم في صنعاء سوى بضعة أشهر وعلى الرغم من عظمة العمل الذي كان يقوم به، قال لهم :ما هذا العمل؟ أنا لا أريد هذا العمل، أنا عملي ومكاني في الجبهات ولا أقدر أن أبتعد عنها أكثر من ذلك.
وفعلا حزم الشهيد أبو ذو الفقار أمره وأمتعته عائدا إلى ميادين الوغى وساحات البطولة والفداء.