
ربما لم تحتل الفنون مكانة عالية مثلما احتلتها في فلسفة هيجل الذي رأى أن جمال الفن أسمى من جمال الطبيعة يقول هيجل مؤكدا على هذا: ” في وسعنا أن نؤكد على ما يخيل إلينا أن الجمال الفني بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة أسمى من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح فما دام الروح أسمى من الطبيعة فإن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته وبالتالي إلى الفن”.
وفي ترتيبه للفنون يعتمد هيجل أساس من القرب والبعد نحو الحسية والتجريدية تبعا لفلسفته التي تقول أن الفكر أولا قبل المادة وترى في الفكرة الروح المطلق الذي هو المرتبة العليا للفكرة المطلقة أساس الوجود ولهذا كان سلم الفنون لدى هيجل يبدأ من الفنون الحسية وينتهي بالتجريدية وهي أرقاها لأنها تقارب فكرة الروح المطلق.
يقرأ هيجل الفنون في التاريخ هكذا يبدأ من النحت بوصفه محاكاة للحسي وينتهي بالشعر والموسيقى كونهما أقرب إلى التجريد وما بين هذا وذاك يمر هيجل على الفنون الحسية مثل التصوير ويقلل من شأنها إلا أنه يرى أن الفن التشكيلي كلما اقترب من التجريدية أصبح أرقى وأقرب إلى الروح المطلق ولهذا يتحدث عن الفن الإسلامي بوصفه تجريدا خالصا.
والحقيقة أن الفن الإسلامي وهو جزء من الخط أو قادم من الكتابة باعتبارها تجريدا إذا ما عرفنا أن كل حرف هو رمز تجريدي لصوت ما لا علاقة بين الصوت والرمز ولا بين الكلمة والدلالة الواقعية الحسية للكلمة إلا أن بعض اللغات ما زالت تحتفظ بشيء من هذه الحسية كاللغة الصينية التي ما زال فيها بعض الكلمات تشير إلى المعنى والتصور الحسي له كأن يكون لكلمة البيت دلالة بشكل البيت مرسوما. أو كما هو في الواقع.
ويأتي الخط العربي ليتطور تدريجيا ويصبح محوريا في بروز فن إسلامي سوف يغدو لاحقا مجسدا في الحروفية كما هي الآن في العصر الحديث وربما هي المدرسة الفنية الأكثر اتصالا بالموروث العربي والثقافة العربية ففي حين كانت الانطباعية والواقعية والسوريالية والتكعيبية امتدادا لمدارس وظواهر فنية أوروبية فإن الحروفية بما لها من عمق وما تجسده من تيار مختلف في الفن التشكيلي تشكل امتدادا خالصا للفن الإسلامي القديم.
غير أنه ومن الملاحظ أن الحروفية قديما وحديثا تنحى منحى حسيا حين تتشكل كتلة الحروف لتجسد صورة حسية على هيئة إنسان أو حيوان أو أي شكل حسي في الطبيعة بحيث يصبح الحرف نسقا داخل بنية الصورة أو أرضية للطبيعي المحسوس وقد ينال هذا من فنية العمل لكن الحرف أيضا يظل ذا دلالة لغوية إذا ما اعتبرنا كتلة الحروف لها معنى معين أما إذا كانت الحروف ذاتها لا تتجمع لتدل على جمل مفيدة فذلك شيء آخر ربما يعيدنا في قراءة الدلالة إلى تراث صوفي عريق.
في الصوفية تصبح للحروف معان فالألف: “حرف نوراني وهو الإشارة إلى الله الذي ألف بين الأشياء وانفرد عنها وحرف الألف أيضا أصل لكل الأشياء لأنه صادر من الله تعالى الواحد الأحد.. فالعرش له حرف الألف.. وقيام الألف من أسرار اسمه القيوم.. وهو أول حرف في كلمة الفاتحة.. والألف حرف قائم بنفسه وهو أمة من الأمم وله أعمال كثيرة”.
وأما الباء فرمز للتعين الأول الذي يشكل وسطا بين الواحد والكثير. أما نقطة الباء فتشير إلى وجود العالم أي الموجودات. ووقوعها تحت الباء تمثيل لتبعية الموجودات للتعين الأول. وهي رمز الإنسان الكامل عند الصوفية” ولكل حرف دلالته العميقة في الوعي الإسلامي التي يمكن عبر اشتغالات الفن عليها أن تأخذ الفن في اتجاهات أعمق وأكثر أصالة.