كيف ستدار الفترة المتبقية من إدارة بايدن؟

حسن نافعة

 

 

للنظام السياسي الأمريكي، وهو نظام رئاسي، سمات ومواصفات خاصة تميزه من غيره من النظم السياسية في العالم. من بين هذه السمات حرصه على وجود فترة انتقالية تفصل بين لحظة إعلان فوز الرئيس الجديد ولحظة خروج الرئيس المنتهية ولايته من البيت الأبيض، وهي فترة طويلة نسبياً تصل إلى شهرين ونصف شهر (5 نوفمبر إلى 20 يناير)، الهدف الأساسي من وجودها ضمان انتقال سلس للسلطة وتهيئة الرئيس الجديد وأعضاء إدارته، ذهنياً ومعلوماتياً، لاستكشاف القضايا الحساسة والاطلاع على أهم ما تحويه الملفات الشائكة، كي يتمكن المسؤولون الجدد من مباشرة مهماتهم فور تسلم مناصبهم رسمياً، وبما يضمن عدم وجود فراغ أو خلخلة في عملية اتخاذ القرارات. غير أن الفترة الانتقالية، التي تفصل بين انتخاب ترامب وخروج بايدن من البيت الأبيض، تبدو فريدة من نوعها.
فالرئيس الخارج من البيت الأبيض، والذي سبق له شغل مناصب عليا في النظام الأمريكي، تشريعية وتنفيذية، على مدى أكثر من نصف قرن، وأصبح على وشك توديع العمل العام نهائياً، يشعر الآن بإحباط شديد ناجم عن سوء إدارته للفترة التي أمضاها رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، بحيث فشل بايدن خلالها في تحقيق أي إنجاز يذكر في كل الأصعدة.
ففي بداية ولايته، سعى لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني وفشل، وفي وسطها لم يتسبب بإشعال الحرب في أوكرانيا فحسب، وإنما أخفق بعد اندلاعها أيضاً في تركيع روسيا بالعقوبات، كما فشل في حملها بالقوة على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية التي احتلتها، بل قد يتسبب بإشعال حرب عالمية ثالثة بسبب قراره المفاجئ السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ أتاكمز ATACMS أمريكية الصنع في ضرب العمق الروسي، وها هو يخرج في نهاية فترة ولايته ويداه ملطختان بدماء الفلسطينيين واللبنانيين بسبب ضلوعه المباشر في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة والضفة منذ أكثر من عام، وأيضاً في الحرب العدوانية التي تشنها “إسرائيل” على لبنان منذ أكثر من أربعين يوماً.
لذا يتوقع أن يستميت بايدن في محاولة استغلال الأيام القليلة المتبقية له في البيت الأبيض لتحقيق أي إنجاز يُذكر، وهو ما يفسر مساعيه شبه اليائسة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في الجبهة اللبنانية.
أما الرئيس الداخل للبيت الأبيض فيعود إليه منتفخاً هذه المرة، ومزهواً بما حققه من انتصار كاسح أعاد إليه اعتباره وجعله يشعر، وخصوصاً بعد نجاته من محاولتين لاغتياله، بأنه مبعوث العناية الإلهية المفوض إعادة فك الولايات المتحدة وتركيبها كي تصبح من جديد مؤهلة للهيمنة على العالم، ليس من خلال الحروب والعمل على تغيير الأنظمة في الدول الأخرى بالقوة، مثلما اعتادت من قبلُ، لكن من خلال العمل على “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”.
ولأن ترامب يدرك أن تلك هي فرصته الأخيرة، ثم بات عليه أن يستغلها من دون حساب لعواقب داخلية قد تحول دون انتخابه فترة ولاية ثالثة غير مسموح بها دستورياً، يُتوقع أن تدور معاركه الكبرى خلال فترة ولايته الثانية في الساحة الداخلية، وليس في الساحة الخارجية، كما يُتوقع أن تكون هذه المعارك شرسة ومليئة بالمخاطر، لأنها ستدور أساساً في مواجهة الدولة الأمريكية العميقة. لذا، أظن أنه يفضل عودة بعض الهدوء إلى الشرق الأوسط قبل دخوله البيت الأبيض، ثم ليس من المستبعد أن يتعاون مع بايدن في مساعيه الرامية إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار في الجبهة اللبنانية أو، على الأقل، عدم القيام بأي شيء يمكن أن يتسبب بعرقلة هذه المساعي. وإذا صح هذا الاستنتاج فربما يتم التوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار في الجبهة اللبنانية، وربما في غزة أيضاً، كي يصبح الطريق معبَّداً أمامه للبحث في هدوء عن أفضل السبل لتسوية قابلة للدوام تؤدي إلى تخليد اسمه في التاريخ!!
أياً كان الأمر فعلينا أن نتذكر أن ساكن البيت الأبيض سيظل دائماً منحازاً إلى “إسرائيل”، سواء كان اسمه بايدن أو ترامب. ومع ذلك، أظن أنه لا يجب التقليل من أهمية الفوارق بين رئيسين متباينين تماماً، أحدهما يودع البيت الأبيض، وفي حلقه غصة من نتنياهو، بسبب تلاعبه المتكرر به وبمبادراته المتعلقة بوقف إطلاق النار أو بزيادة قوافل المساعدات الموجهة إلى السكان المدنيين في قطاع غزة، على رغم حرصه الشديد على أمن الكيان الصهيوني وتفوقه، والآخر يستعد لوضع قدمه في البيت الأبيض، وهو مختال بما حققه لهذا الكيان في الماضي، لكنه يدرك، في الوقت نفسه، أن أمامه أربعة أعوام كاملة، سوف يتعين عليه خلالها أن يوازن بين عدد من الاعتبارات المتناقضة، والتي قد تحد اندفاعه نحو الانحياز غير المشروط إلى “إسرائيل”.
فنتنياهو لا يستطيع أن يضمن سلوك بايدن خلال الفترة المتبقية على خروجه من البيت الأبيض، ولا شك في أنه لا يزال يذكر سلوك أوباما المفاجئ وغير المتوقع قبل خروجه من البيت الأبيض بأيام قليلة. ففي 23 ديسمبر عام 2016 امتنع أوباما من استخدام الفيتو ضد مشروع قرار كان مطروحاً للتصويت أمام مجلس الأمن في ذلك الوقت، يطالب “إسرائيل” بوقف الاستيطان في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ويؤكد عدم شرعية كل المستوطنات التي أقامتها “إسرائيل” في الضفة الغربية منذ عام 1967، وهو ما سمح بصدور قرار مجلس الأمن رقم 2334. ومن المعلوم أن الولايات المتحدة اعتادت استخدام الفيتو لمنع صدور جميع القرارات التي من هذا النوع، في ظل جميع الإدارات التي تعاقبت على حكم الولايات المتحدة منذ عام 1967، الجمهورية منها والديمقراطية، على حد سواء.
يؤكد معظم المراقبين أن نتنياهو راهن منذ البداية على فوز ترامب، وسعى بكل وسائل الخداع، التي يُجيدها، للتملص من كل المحاولات التي استهدفت التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة، والتي كان يمكن بالتالي أن تؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار في كل الجبهات الأخرى، ونجح في أن تستمر الحرب حتى ما بعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يقرر نتنياهو القيام بالهجوم الكبير على حزب الله، بدءاً بعمليات البيجر، وانتهاءً بالغزو البري للجنوب، مرورا بعمليات الاغتيال التي طالت كبار القادة، وعلى رأسهم الشهيد السيد حسن نصر الله، قبل أسابيع قليلة من بدء انتخابات الرئاسة الأمريكية، وعندما تحقق ما كان يحلم به وفاز ترامب، أمسكت النشوة ليس بتلابيب نتنياهو وحده، وإنما أيضاَ بتلابيب أكثر التيارات تطرفاً وعنصرية في حكومة الكيان.
لقد تصور نتنياهو أن حماس باتت على وشك الهزيمة، ثم لم تعد قادرة على القيام بأي دور يُعتَدّ به في الساحة، كما تصوّر أن العمود الفقري لحزب الله تم كسره فعلاً، وبالتالي أصبحت هزيمته الكاملة وإخراجه من معادلات المنطقة مسألة وقت، وبالتالي سوف يستطيع، مع عودة ترامب، أن يتفرغ لإدارة الصراع مع إيران، “رأس الحية”، وأن يحشرها من جديد بين سندان العقوبات الأمريكية الشاملة ومطرقة الضربات الإسرائيلية الساحقة والمتكررة للعمق.
وذهبت النشوة بوزير المالية الصهيوني، بتسلئيل سموتريتش، إلى حد التصريح علناً بأن “عام 2025 سيكون عام ضم الضفة الغربية إلى الكيان!”. غير أن هذه النشوة ما لبثت أن تلاشت، وراحت تتحطم على صخرة ثلاثة تحديات، لن تستطيع حكومة نتنياهو أن تتغلب على أي منها بسهولة:
التحدي الأول: الفشل في إلحاق هزيمة عسكرية بحزب الله. لقد تعثر الاجتياح البري للجنوب اللبناني بسبب الخسائر الكبيرة التي باتت تلحق بجيش الكيان يومياً، وبالتالي أصبح احتمال نجاح الكيان في دفع الحزب بقوة السلاح إلى ما وراء جنوبي نهر الليطاني، وتمكين المستوطنين النازحين من العودة إلى مستوطناتهم في الشمال، مسألة شبه مستحيلة، وخصوصاً أن حزب الله ما يزال قادراً على إرسال صواريخه ومسيراته إلى كل شبر في الكيان، بما في ذلك “تل أبيب” نفسها.
التحدي الثاني: صمود حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة وتمكنها من إلحاق خسائر يومية بجيش الكيان، وكذلك صمود الشعب الفلسطيني على رغم المجازر اليومية وعمليات الإبادة الجماعية، في مشهد يرقى إلى مرتبة الإعجاز.
التحدي الثالث: انفراط عقد الجبهة الداخلية في الكيان من جديد، وخصوصاً بعد زوال أثر الانتصارات التكتيكية التي تحققت، وعجز حكومة الكيان عن تحويلها إلى إنجازات استراتيجية، وتأكد استحالة عودة الأسرى الإسرائيليين أحياءً من دون صفقة تلبي شروط حماس، وتصاعد الفضائح التي باتت تمسك بخناق نتنياهو، وخصوصاً بعد فضيحة التسريبات الأخيرة، التي تثبت، بما لا يدع مجالاً لأي شك، أنه المسؤول الأول عن تعثر صفقة التبادل.
فإذا أضفنا إلى ما تَقَدَّم أن بايدن، بسبب رغبته في تحقيق إنجاز يستر بعض ما لحق به من عورات وإخفاقات على مدى الأعوام الأربعة المنصرمة، قد يسلك سلوكاً مشابهاً لسلوك أوباما من قبل، ثم يمتنع من استخدام الفيتو لتمرير قرار يُلزم “إسرائيل”، وفقاً للفصل السابع من الميثاق، بوقف إطلاق النار وبزيادة حجم المعونات الإنسانية المقدمة إلى الشعب الفلسطيني المهدَّد بالإبادة في غزة، فربما تشهد الأسابيع القليلة المقبلة مفاجآت لم تكن في الحسبان، في مقدمتها سقوط حكومة نتنياهو وانهيارها. وفي هذه الحالة، أظن أن ترامب لن يمانع، بل قد يرحّب بالتعامل مع رئيس وزراء آخر غير نتنياهو.

أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة

قد يعجبك ايضا