مع كل دورة انتخابية في الولايات المتحدة، يتجدد انقسامٌ مألوف في بعض الأوساط العربية، كما لو كنا في مشهدٍ مسرحي يعرض كل أربع سنوات. يقف فريقٌ منهم، مفعمٌ بالحماس والتفاؤل، بانتظار عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وكأنما يرونه مخلصاً يحمل في جعبته وعود الخلاص لقضاياهم، فتتعالى أصواتهم مهللة لفوزه، وكأن انتصاره سيحقق لهم آمالهم الغائبة. وفي الجهة المقابلة، يوجد آخرون يترقبون لحظة فوز كامالا هاريس، غير أن آمالهم تتبددت سريعاً مع إعلان خسارتها، لتعتلي وجوههم غمامة من الحسرة وخيبة الأمل.
هذا المشهد، بما يحمله من اختلاف بَيّن، يعكس واقعاً مريراً من سوء الفهم العميق للواقع السياسي الأمريكي، كلا الفريقين ينساقان وراء توقعاتٍ مضللة حول دور الرئيس الأمريكي في صنع السياسات الداخلية والخارجية، غافلين عن حقيقةٍ لا غبار عليها: النظام السياسي الأمريكي ليس ساحةً يديرها فرد، بل هو مسرحٌ كبير تتوزع فيه الأدوار بدقة متناهية، ويقف خلف الكواليس لاعبون مؤثرون يديرون الأحداث ويوجهون المسرحية وفق استراتيجيات مدروسة، هؤلاء هم ما يعرف بالإدارة الأمريكية، جماعات الضغط، واللوبيات الصهيونية، التي تتحكم بمفاصل القرار الأمريكي وترسم توجهاته الكبرى. أما الرئيس، أياً كان اسمه أو حزبه، فهو ليس سوى ترسٍ صغير في آلة ضخمة، يتسلم خيوط اللعبة ويمضي وفق الاستراتيجيات التي وضعتها هذه القوى.
في الواقع، يمكننا وصف التنافس بين المرشحين الأمريكيين كعرضٍ سياسي متقن، تُزين فيه الواجهة بألوانٍ حزبية وشعاراتٍ جذابة، بينما لا تتعدى هذه الخلافات سطح السياسات وآليات تنفيذها، دون أن تمس جوهر الأهداف التي وضعها اللوبي الصهيوني، فحتى في ظل التراشق الانتخابي بين الجمهوريين والديمقراطيين، لا نجد تغييراً حقيقياً في التوجهات الكبرى للسياسة الأمريكية، خاصةً تجاه المنطقة. أما في ما يتعلق بآلية الانتخابات نفسها، فإن النظام الأمريكي وإن بدا لدى البعض بمظهر ديمقراطي جذاب، إلا أن الحقيقية تكمن في أن الشعب الأمريكي نفسه لا يمتلك السلطة المطلقة في اختيار رئيسه؛ فالعملية الانتخابية تعتمد على “المجمع الانتخابي”، وهو منظومة معقدة وغير مباشرة، حيث لا يحق للناخبين اختيار الرئيس بشكل مباشر، بل هم ينتخبون مندوبين يمثلون أصواتهم، وهؤلاء المندوبون هم في الأصل ممثلو الحزبين الجمهوري والديمقراطي، الذين يفوضون في اختيار الرئيس، وهذا يكشف عن حقيقة الانتخابات الأمريكية التي تشبه مسرحيةً مدروسة، حيث أن العملية الانتخابية بأكملها موجهة لضمان اختيار الرئيس الذي سيكمل تنفيذ سياسات مسبقة، لا تتغير بتغير الأسماء.
عندما نتأمل في تاريخ الرئاسة الأمريكية، نجد أن كل رئيس جاء إلى البيت الأبيض لم يحدث تغييراتٍ جذرية في التوجهات الكبرى للولايات المتحدة، خاصةً في ما يتعلق بالمنطقة. من غير المهم إذا كان الرئيس ديمقراطياً أو جمهورياً، فإن السياسة الأمريكية تجاه المنطقة لا تخرج عن الخطوط العريضة التي رسمها اللوبي الصهيوني منذ عقود. فالرؤساء الأمريكيون المتعاقبون، بغض النظر عن خلفياتهم الحزبية، يتبعون في النهاية الأهداف نفسها التي تم تحديدها مسبقاً. هذه الأهداف تتعلق، في جوهرها، بالحفاظ على مصالح العدو الإسرائيلي ، بغض النظر عن حقوق الفلسطينيين أو القضايا العربية الأخرى.
خذ على سبيل المثال فترة رئاسة دونالد ترامب، خلال حكمه، شهدنا مكاسب استراتيجية غير مسبوقة لإسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين والعرب بشكل عام. فقد اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وأعلن عن اعترافه بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية، وأطلق العديد من صفقات التطبيع مع الدول العربية، بدءاً من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب السعودية ودولاً أخرى، وصولاً إلى إعلانه ” صفقة القرن”. أما جو بايدن، ورغم أنه جاء من الحزب الديمقراطي الذي طالما قدم نفسه كمدافع عن حقوق الإنسان، فإن مواقفه تجاه إسرائيل لم تختلف عن سابقيه؛ فالدعم الأمريكي المستمر لإسرائيل في عدوانها على غزة ولبنان بالحد ذاته دليل على استمرار السياسة الأمريكية في خدمة المصالح الإسرائيلية دون تردد.
ورغم وضوح هذه الحقائق، ما زال بعض العرب يعلقون آمالاً كبيرة على كل رئيس أمريكي جديد، ظناً منهم أن هذا الرئيس سيحمل الرايات العربية، ويقتحم بها البيت الأبيض، غير مدكرين أن سنواتٍ من التغيير على مستوى الرؤساء الأمريكيين لم تغير في جوهر السياسة الأمريكية تجاه المنطقة شيئاً، وان هذه التوجهات لا تتعلق بأسماء الرؤساء أو الأحزاب السياسية، التي تتداول السلطة في واشنطن. بل هي سياسة ثابتة، تراعي وتدعم العدو الإسرائيلي وتأمن مصالحه في المنطقة.
اليوم، على العرب أن يدركوا أن قوتهم الحقيقية تكمن في وحدتهم وتكاتفهم، وفي تصميمهم على التصدي لتحدياتهم دون انتظار حلولٍ تأتي من وراء البحار. فلا ترامب، ولا أي رئيس آخر للبيت الأبيض، يستطيع تقديم حلولٍ جذرية تخدم قضايا المنطقة؛ ذلك أن السياسة الأمريكية ثابتة في امتدادها الواضح بدعم المشاريع الصهيونية التي تستهدف استقرار المنطقة واستقلالها. فبغض النظر عن تبدل الوجوه في البيت الأبيض، فإن النهج السياسي سيبقى على ما هو عليه، حيث يأتي كل رئيس جديد ليكمل مسيرة من سبقه في دعم تلك السياسات العدائية تجاه قضايا الأمة. من هنا، على العرب أن يوقنوا بأن أملهم في تحرير فلسطين واستعادة حقوقهم لن يتحقق إلا إذا عززوا مناعة الداخل العربي، وسعوا لتشكيل جبهة موحدة مع دول المنطقة. فالوحدة الاسلامية ليست خياراً ترفياً، بل ضرورة استراتيجية تفرضها طبيعة التحديات، واللحظة الراهنة التي تتطلب أن تكون دول وشعوب الأمة صدىً لبعضها، تعيد تشكيل ملامح حاضرها، بإرادة حرة لا تقبل الوصاية ولا تتهاون في حقها الأزلي في فلسطين.