في خطوة انتقامية، لا تخلو من أهداف الضغط وكسر العزيمة، اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي 3 من أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وعددًا من أحفاده في غارة جوية على سيارتهم، بينما كانوا يتنقّلون في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، خلال أداء زيارات صلة الرحم في اليوم الأوّل لعيد الفطر المبارك.
بحادث الاغتيال هذا، تأكدت قاعدة متجددة لطالما عُرفت حركة المقاومة الإسلامية حماس بها، وهي قاعدة الدماء المتساوية، واندماج قادتها وأبنائها مع أبناء الشعب الفلسطيني، وقد أثبتت الحركة ذلك خلال مسيرة نضالها.
وعلى سبيل المثال، قدّم الدكتور خليل الحية- رئيس مكتب العلاقات العربية والإسلامية في حماس، وقائد فريقها التفاوضي حاليًا – عددًا كبيرًا من أبنائه وأفراد عائلته، وكذلك الدكتور محمود الزهار، والمهندس عيسى النشار، وغيرهم الكثير من الكوادر في كافة المستويات القيادية للحركة.
وتتميز حركة حماس بالتطبيق العملي لمفهوم الدماء المتساوية، وتكاد تبرز كحالة ساطعة حتى على المستوى العالمي، بهذا الكَم الكبير من التضحيات والتي تصل ربما لمئات من قادتها من الصف الأول وأبنائهم دون التراجع عن هذا الطريق. وقد كان نائب رئيس حركة حماس، صالح العاروري الذي استشهد خلال معركة “طوفان الأقصى” يؤكد هذه المعاني، بقوله: ” نحن لا نختلف عن كل أبناء شعبنا، نحن جزء من هذه المقاومة ويمكن أن نكون جزءًا من الثمن”.
إن مفهوم الدماء المتساوية، يعني التساوي في التضحيات من القيادة التي تتقدم المشروع مع بقية فئات الشعب الذي تنتمي له، وهذا أحد مؤهلات القيادة الحقيقية الأساسية، حيث إن التضحيات التي يقدمها القادة من أنفسهم ومن دائرتهم الاجتماعية الأولى، تظهر التزامهم الأساسي بالقضية التي يناضلون من أجلها من جهة، كما أنها تعدّ مصدر إلهام للمناصرين والمتابعين، وتحثهم على مزيد من البذل والعطاء من أجل المشروع السامي. كما أنها تجدد الثقة بين القائد وشعبه.
وهذا ليس كلامًا عاطفيًا، مع أنَّ المشهد في غزة لا يمكن أن ينفصل عن الشعور العاطفي، بل تعززه أيضًا جملة من النظريات القيادية، مثل نظرية القيادة الأخلاقية، حيث يقدم القائد المثل الأعلى للشعب من خلال تضحياته وتحمّله المسؤولية، والتزامه بهذه المبادئ، من خلال تضحياته حتى لو كانت على حسابه وحساب عائلته، ويكسب هذا القائد احترام وثقة الشعب.
لقد رسّخ حديث إسماعيل هنية قائد المكتب السياسي لحركة حماس للجزيرة في الساعة الأولى لاستشهاد أبنائه، والمقطع الذي ظهر له وهو يتلقى الخبر بتسليم كامل ووقار وسمت هادئ، عدّةَ أمور، منها ترسيخ صورة القيادة الملتحمة مع الشعب والتي لا تختلف عنه بقوله: إن “كل أبناء شعبنا وكل عائلات سكان غزة دفعوا ثمنًا باهظًا من دماء أبنائهم، وأنا واحد منهم.. وما يقرب من 60 من أفراد عائلتي ارتقوا شهداء، شأن كل أبناء الشعب الفلسطيني ولا فرق بينهم”.
من زاوية أخرى، أظهر موقف هنية الأوّلي الثباتَ الانفعالي لقيادة الحركة في الأوقات الحرجة، ونضج هذه القيادة وقدرتها على تحمل مثل هذه الأخبار، وهذا مؤشر مهم للحاضنة الشعبية، بأن القيادة لا تخضع للابتزاز، وهذا أمر آخر من شأنه أن يضيف إلى الشعور بالثقة في اتخاذ القيادة للقرارات الصائبة.
وقد تابعت عشرات التعليقات من نشطاء وشباب في عدة دول من المنطقة حول موقف هنية الأوّلي والذين أشادوا بهذا الثبات، وهذه المتانة، وأكدوا أن مثل هذا الموقف لا يؤكد إلا أن هذه المقاومة وهذا الشعب على حقّ ولا يمكن أن يُهزم.
لقد قام الاحتلال باختيار التوقيت والهدف والمكان من أجل تحقيق جملة من الأهداف، أولها التأثير على قرارات قيادات حركة حماس، وضرب الحالة النفسية للقيادة والشعب، وكذلك اختار الزمان في يوم عيد الفطر الذي يُعتبر عيد فرح وسكينة في الوعي الجمعي للفلسطينيين والمسلمين جميعًا، وقد اختار هذا التوقيت لإلحاق هزيمة معنوية وحزن محبط للحالة الفلسطينية التي شعرت بالانتشاء والافتخار قبل يوم واحد فقط، مع نشر مقاطع كمين خان يونس الذي أظهر براعة المقاومة وقدرتها على إيقاع خسائر كبيرة في الاحتلال، وبشكل احترافي حتى بعد 180 يومًا من الحرب.
ومع ذلك فرّغ حديث إسماعيل هنية هذه الأهداف من مضمونها، أولًا بمشهد تلقي خبر استشهاد أبنائه بهذا التسليم، كما أن الحدث أثبت أن العدو لا يفهم مكنون الهوية الفلسطينية التي تزداد قوة وإصرارًا ومكانة بالشهداء من دوائرها الأولى.
إن حركة يقدم قائدها الأول حاليًا جزءًا من عائلته شهداء، كما يستشهد نائبها في هذه المعركة، ومن قبل كان الشهيد أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، وإسماعيل أبوشنب، وغيرهم، لا يمكن أن يُستغرب تسليم قادتها بتلقي هذه الأخبار، فهم مستعدون نفسيًا وعمليًا لها.
من زاوية أخرى لم يزد حادث الاغتيال هذا، صورةَ العدو الإسرائيلي إلا قتامة واشمئزازًا في ظل عدم احترامه ولا رعايته لحرمة زمانٍ ولا مكانٍ ولا عيدٍ ولا أطفال أو مدنيين.
أما المعنى الأهم؛ فهو وهْم الاحتلال في ظنه بأن مثل هذه الحوادث يمكن أن تحدث تغييرًا في السلوك التفاوضي لحركة حماس، بل على العكس تشكل شلالات الدماء المراقة على طريق التحرير عنصر ثبات لا يضاهيه عنصر آخر في تصليب الموقف التفاوضي لأي حركة تحرر. وقد أكد هنية ذلك بقوله: إن “الاحتلال يعتقد أنه باستهداف أبناء القادة سيكسر عزيمة شعبنا.. نقول له إن هذه الدماء لن تزيدنا إلا ثباتًا على مبادئنا وتمسكًا بأرضنا”.
إن الاحتلال الإسرائيلي مثله كمثل نظرائه من الاحتلاليين عبر التاريخ يعيش نفس المأزق، حيث لم يتورعوا عن ارتكاب الجرائم بحق الشعوب، بينما لا تزيد هذه الجرائم الشعوب إلا إصرارًا على إكمال الطريق، ولا تقصر هذه الأحداث إلا من العمر الافتراضي لهذه الكيانات الاحتلالية.
قبل أيام قليلة أظهر استطلاع رأي، أجراه المركز الفلسطيني للدراسات المسحية، أن هنية سيحصل على 70% من الأصوات إذا ترشح مقابل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كما أظهر الاستطلاع تأييدًا كبيرًا لـ “طوفان الأقصى”، حيث اعتقد ثلاثة أرباع الفلسطينيين أن عملية “طوفان الأقصى” وضع القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام.
وأكاد أجزم بشكل قاطع أن مفهوم الدماء المتساوية الذي ترافق مع مسيرة حماس، وأكده الحادث الأخير، سيرفع من شعبية الحركة ودعمها داخليًا وخارجيًا بشكل كبير، وسيضيف لها رصيدًا أكبر مما أظهرته الاستطلاعات السابقة.
* باحث وكاتب فلسطيني