وسيلة امين سامي
أهديها وقلبي لــغــزة
وُضِعَ أمامها جريح جرحهُ غائر يصرخ من كل ألمه ، إلا أنه مازال يقظاً، لم يغب عن وعيه .
يبدو قويا جلدا لكني أشك أن هذا النزيف الشديد من جرحه سيبقيه حيا، هكذا حدثت نفسها الطبيبة .
وفي سباق مع الأنفاس، وعلى ضوء جوال تمسك به الممرضة قالت له الطبيبة بعينين معتذرتين :
– أنا مضطرة لإجراء عملية جراحية لك دون تخدير، لعدم توفر المادة المخدرة، استعن بالله وتجلد، عليك أن تغيب عن الوعي دون مخدر، تذكر أجمل مامر بك وما يمكن أن يساعدك على تحمل الألم .
أجابها وقد لاح على شفتيه شبح ابتسامة جريحة :
ـ لاعليك، أصبحنا نتنفس الألم ولدي الكثير من الذكريات أجملها وأنقاها أنتِ
( ســـِلــوان عز الدين أبو خاطر ) .
دهشت الطبيبة ، كادت تسقط ما في يدها، تساءلت في نفسها :
يعرف أسمي كاملا !!! لا أحد من الجرحى هنا يعرفني .
المشفى يعج بالشهداء والجرحى، الليل سادر في إرخاء سدوله ، أصوات الغارات تكاد تنزع القلوب .
الخوف يركض خوفا في رعب الوجوه ، وفي جنبات المشفى تختلط أصوات الحمد والشكر بأنين الجرحى، وتتصاعد روائح المسك من أجساد الشهداء .
عاد صوت الجريح واهناً مثقلاً بالألم :
ـ أنت سلوان ، واسم مدينتنا سلوان حامية القدس منها تهب نسائم واديا ( الحلوةو الربابة ) مجلوة الرحيق في شفاه الحنين
مازلت أجد ريح أزقتها ميس دلال يناغي الأماني الخضر .
سلوان: أتذكرين حكايات جدتي ونحن نتحلق حولها تحت ظل أشجار الزيتون، نتلمس بأيدينا الغضة الحزام الملتف حول خصرها والذي تزينه خيوط الحرير بأشكال بديعة لعروق النخيل والزيتون والعنب، و(الزناق) الملتف حول جبينها المحلى بالليرات الذهبية، ومفتاحها العتيق يرنو لألف ألف دفء في زوايا دارها البعيدة ؟؟
ٱه، كم كانت جميلة جدتي ، حنانها وصبرها باتساع الكون .
كانت سلوان تحاول أن تجمع شتات ذهنها وهي تعالج جرحه، لكن حديثه شدها بقوة، أعادها لماض حاضر في ثنايا الروح متشبث بالأنفاس .
ـ هل تذكرين الطفلةَ سلوان ذات الأعوام العشر في حي (البستان)؟
عندما كانت تجمع الحجارة وتدفعها لي، ٱخُذها أنا ورفاقي وننتظر الدورية الإسرائيلية لنمطرها بالحجارة .
تأوه وهي تغرز الإبرة في جسده، أكمل قائلا :
مددتني بسلاح الحجارة منذ زمن بعيد لنحيا كراما ، وها أنت الأن تحاولين إنقاذ روحي ، صارت حجارتنا صواريخ تدك حصون المغتصب .
مازال الجريح مسترسلا بسلوى ذكرياته :
ـ هل تذكرين عناقيد العنب في صباحات الصيف، ظلها الذي ينسكب اخضرارا يجافي خطو الرحيل ؟
ترقرقت الدموع في عيني سلوان :
ـ نعم، لم أنس شيئا مما ذكرت
(مروان أبو دياب) رفيق الطفولة، كم أحزنني اعتقالك طفلاً مع رفاقك .. شجرة الزيتون التي ٱنستها وحيدة بعد اعتقالك شهدت سيل الدمعات التي فرت من عيني حزنا عليك .
ـ كيف افترقنا سلوان ؟؟ ضاعت أعوام من العمر خلف القضبان لأخرج باحثاً في خبايا الأيام، عن قبضة من أثر الراحلين، أسميت ابنتي البكر (سِلوان) لها نفس جديلتيك الذهبيتين في طفولتك، قضت مع أمها وإخوتها إثر قصف همجي، الحمد لله سبقونا للجنان، غدا القلب مِزَقا في عثرات الأماني تائهاً في إيحاش السنين، كم نشتاق لأمان دفيء يسكب مواويل (عتابا وميجانا) بعبق الذكريات وبهنأة ري بوعود المطر ..
بذلت سلوان قصارى جهدها لإنقاذ حياته، تكللت العملية الجراحية بالنجاح .. حمدت الله على سلامته، هز رأسه شاكرا .
عادت لذاكرتها صورة ذاك الطفل الثائر الذي شكرها يوما عندما كانت تجمع له الحجارة وهما في عمر الزهور، زهور محاطة بالأشواك والجراح، لكن عبيرها مازال يحلق في سماء فلسطين، يجوب مزارع الزيتون، وبيارات البرتقال، يصير لعنة في عيون المغتصب .
في تلك الأثناء سُمِع صوت طفلة تواسي أخاها أمام جثة أبيهما الشهيد :
(لاتعيط بابا راح ع الجنة ).
ابتسم مروان قائلا : نحن نولد كبارا ياسلوان