في عالم تنهشه أنياب الظلم والاستبداد والاستعمار، تشع قضية فلسطين بنور المقاومة والثورة والتضحية، فالشعب الفلسطيني، الذي يحتضن ترابه الاحتلال الإسرائيلي منذ 75 عاماً، لم ينكسر أمام الخذلان، بل واصل النضال والكفاح من أجل استرداد أرضه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، ومن بين أبناء هذا الشعب، يزهو أهل غزة بصفات الشجاعة والصبر والإيمان، فهم يتصدون للعدوان الصهيوني المتكرر والمتصاعد، الذي يسعى إلى كسر إرادتهم وترويعهم وتشتيتهم.
لا شيء يعبر عن وحشية العدوان الإسرائيلي على غزة بأقل من أنه جرائم ضد الإنسانية، فهو يخترق كل الحدود والمبادئ والأعراف والقوانين الدولية التي تضمن حقوق الشعوب والأفراد، فالاحتلال الإسرائيلي لا يزال يفرض سياسة الحصار الخانق على القطاع منذ عام 2007م، جاعلا من مليوني نسمة يعيشون أسرى في سجن كبير، يخيم عليه ظلام دامس ومرض مستعص وفقر مدقع، ومنع دخول المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية والطبية والوقود إليه، مما يضاعف من معاناة سكان القطاع ويهدد بإبادتهم.
وكأن ذلك لا يكفي، فالاحتلال الصهيوني يواصل حربه الهمجية على غزة، مستخدما كل ما في جعبته من أدوات القتل والدمار، من طائرات ودبابات وسفن وصواريخ، ليزرع الموت والخراب في كل زاوية من زوايا القطاع المحاصر، وقد ارتفع عدد ضحايا هذا العنف الوحشي، الذي لم يتوقف بعد، إلى 20 ألفا و424 شهيدا، و54 ألفا و36 جريحاً، معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى تحويل آلاف البيوت والمساجد والمدارس والمستشفيات والمزارع والمصانع والمرافق الحيوية إلى ركام وأنقاض.
ورغم الظلام الدامس والجبروت القاسي، لم تنطفئ شمعة الأمل في قلوب أهل غزة، ولم يهن عليهم دمهم وأرضهم ودينهم، بل أشعلوا نار الثورة والجهاد في وجه الطغيان والاحتلال، فالمقاومة الفلسطينية، التي تجمع ألوان الطيف السياسي والفكري، تصدت للعدو الإسرائيلي ببسالة وبأسلحة متواضعة، ملقية بالصواريخ والطائرات المسيَّرة والعمليات الاستشهادية حجارة النار على رؤوس الظالمين، وأظهرت قدرتها على تغيير موازين القوى، وكبدت العدو الإسرائيلي الخسائر المنكلة والجروح النازفة.
لا شك أن المقاومة الفلسطينية قد أحيت في الضمير العربي والإسلامي معاني الشموخ والنخوة والإرادة والحق، وأبانت أن القضية الفلسطينية هي قضية كل من ينادي بالحرية والكرامة والعدل في الأرض، قضية كل من ظلم واستعبد واستهان بحاله في الكون، فهي لم تكن تدافع عن غزة فقط، بل عن كل شبر من أرض فلسطين، وعن كل جزء من هوية الأمة العربية والإسلامية، التي تعاني من الاستبداد والتخلف والتبعية.
ولكن في ظل هذا الثبات والمواجهة والفداء من جانب أبناء فلسطين في غزة وفصائلها المقاومة، وجدنا الخيبة والخذلان والخيانة من قبل الأنظمة العربية، التي تدعي أنها تقف إلى جانب شعب فلسطين، وتدعم حقوقه الإنسانية، ولكنها في الحقيقة تتحالف مع الكيان المحتل، وتسانده وتحميه، فهذه الأنظمة هي كالحية التي تخفي سمها في أنيابها، أو كالثعلب الذي يتظاهر بالصداقة مع الدجاجة، أو كالنار التي تتنكر بالرماد، فهي تنشر الخطابات والبيانات والمبادرات والمؤتمرات، التي تبدو وكأنها تهتم بفلسطين، ولكنها في الواقع تسعى لتمرير مخططات وأجندة الاحتلال الإسرائيلي وتضر الشعب الفلسطيني، فهي تلعب دور الحكم والمحكم والمدافع، ولكنها في الحقيقة تكون القاتل والمجرم والمتهم، إذ تمارس النفاق والمراء، وتنسى العروبة والحق الوفاء، وتسير على خطين متوازيين، أحدهما يتظاهر بالوقوف مع أهلنا في فلسطين، والآخر يقف ويدعم الكيان الغاصب.
لم تك غزة ترجو من الأنظمة العربية نصرا، فهي تدرك أن هذه الأنظمة متحالفة مع العدو الصهيوني، وأنها لا تهتز لهمة وقف المجازر التي يرتكبها الكيان الغاشم بحق الشعب الفلسطيني، لكن غزة كانت تعتمد على الله، وقوة إرادة مقاومتها، فعلى الرغم من كونها تعيش في قفص الحصار والعدوان والفقر والجوع، لم تنكسر لليأس، بل أيقظت طاقاتها وروحها، وأعلت شعار الجهاد والمقاومة، وبنعمة من الله، استطاعت أن تحقق انتصارات باهرة على العدو الصهيوني، الذي كان يظن أنه يستطيع إن يفرض إرادته عليها.
لقد أظهرت غزة العالم بأن الصهيونية مشروع متصدع ومتهالك، وأن صواريخها المصنعة تحت الحصار قادرة على تمزيق القبة الحديدية، وأن المقاومة قادرة على التصدي والتحدي، وتحويل الجيش الإسرائيلي إلى غبار، ففي الوقت الذي كانت تقف فيه غزة بصمود وبكرامة في مواجهة العدو الصهيوني، وتتلقى فيه النيران والقصف والحصار، وقفت صنعاء من بين كافة الأنظمة العربية منفردة الى جانبها بالعمليات النوعية المتمثلة بالرد الحاسم على الكيان الصهيوني سواء بالصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيَّرة أو بالسيطرة على حركة الملاحة البحرية للسفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل، مظهرةً بذلك روح التآخي والتعاون بين الشعبين الفلسطيني واليمني، فصنعاء التي تتعرض للعدوان السعودي الإماراتي الأمريكي البريطاني، وتقاوم بإصرار وبشجاعة، لم تنسَ قضية إخوانها في فلسطين، بل وقفت معهم في ساعة الشدة، وأظهرت لهم أنهم ليسوا وحدهم في مواجهة العدو الغاصب.
ولكن أيا كانت قوة الانتصار، فإنه لا يكفي لإنهاء الألم والجور والاستعمار، فالقضية الفلسطينية ليست قضية غزة وحدها، بل هي قضية كل فلسطين، من النهر العذب إلى البحر الأزرق، وكل الشعب الفلسطيني، في الأرض والمهجر، فالاحتلال الإسرائيلي لا يزال يمارس سياساته العنصرية والاستيطانية والتهويدية في القدس والضفة الغربية والجولان والنقب والجليل، مهددا المسجد الأقصى والهوية الفلسطينية، ولا يزال الشعب الفلسطيني في الشتات يتحمل وطأة النزوح والتهجير والإقصاء والحرمان من حقه في العودة إلى أرضه ووطنه.
لذا، فإن الانتصار في غزة هو بداية الطريق وليس نهايته، فهو يتطلب المزيد من الجهد والتماسك، من خلال تحقيق الوحدة الفلسطينية، وتنشيط العمل السياسي والدبلوماسي والقانوني والشعبي، ومن خلال تقوية التضامن والدعم العربي والإسلامي مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، ومقاومة صفقات التطبيع والخيانة والانبطاح والتخلي، وبالاصرار على النضال والمقاومة والثورة حتى تحرير كل ذرة من تراب فلسطين، وإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
في الختام، نستطيع القول إن غزة أظهرت للعالم كله أنها لا ترضى بالمهانة والخنوع، بل تواجه الاحتلال الإسرائيلي والخيانة العربية بكل فخر وشرف، وتحفظ في صدرها إرادة لا تنحني ولا تنهزم، متخطيةً مصاعب الحصار والعزلة، وفي المقابل، أكدت صنعاء أنها شعلة من نور وأمل، تنير للشعب الفلسطيني طريق النصر والحرية والكرامة، فهي لن تتوقف عن تضامنها وإخلاصها مع قضيته، وستتصدى للغطرسة والجبن والتطبيع الذي يهدف إلى تقويض حقوق الأمة، ففي الوقت الذي تبعث غزة فيه رسالة قوية إلى العالم بأن الشعب الفلسطيني لا يقبل بالهزيمة أو الاستسلام أو التنازل عن حقوقه، مهما كانت الأعباء والمحن والشدائد، فإن لصنعاء رسالة تؤكد من خلالها أنها ستظل قلعة المقاومة والثبات والتضامن والوفاء في مواجهة الظلم والاستكبار ومشاريع التخلي والانبطاح.