بالطبع يجب أن نؤمن أن الحرب والقتال والمواجهات والمعارك والدماء التي سالت في اليمن لم تكن ترفاً أو نزهة أو أخطاء عابرة .. بل كانت ضرورة لها موجباتها وعواملها وأسبابها ومبرراتها من كل الأطراف..
فعواصم العدوان وهي عواصم الجوار الجغرافي حركتها للحرب والعدوان موجبات عديدة وضرورات كانت تراها من وجهة نظرها وجيهة وملزمة وتصب في خدمة استراتيجياتها وسياساتها وحددت لها أهدافها القريبة والبعيدة.. فقد شعرت (الرياض) ان الخيوط التي كانت تمسك بها في علاقاتها مع اليمن ورموزها قد بدأت تنفلت، وان قوى جديدة بدأت ترسخ وجودها بقوة وتأثير في الواقع الجديد الذي فرض معطياته.. وهي العاصمة العربية الإقليمية التي كان لها تأثيرها، بل وطغيانها على القرار اليمني وعلى ارتهان أسماء ورموز عديدة سياسية وقبلية ومجتمعية في اليمن للسياسات الإقليمية السعودية، ووجدت في (الهارب هادي) ضالتها الذي أبدى مرونة عجيبة أمام تدخل الرياض في اليمن.. لاسيما وأن هذا الرجل كان محدود الخبرة السياسية وامتاز بخفة الموقف والوزن السياسي، إذ ظل رجل الظل المرافق للرئيس علي عبدالله صالح سنوات طويلة حتى قيل عنه انه رجل المقص الأوفر حظاً.. أي الذي توكل اليه مهام حضور الفعاليات السطحية وافتتاح المشاريع الوهمية أو المشاريع المتواضعة جداً ..
قيادة الرياض وجدت في مثل هذا الرجل ضالتها في القبول المذل بالتدخلات السافرة في الشأن اليمني الداخلي التي لم تكن تخفى على أحد .. حتى قيل إن اليمن حديقة خلفية للرياض وقيادتها..
لذلك اتجهت السعودية إلى فرض مشهد سياسي وعسكري استوجب تلك الروح الاستعراضية، لاسيما وان محمداً بن سلمان وجد في الحرب ضد اليمن فرصة الخلاص من الضغوط الكبيرة عليه وعلى والده من داخل المملكة من الأسرة المالكة والحاكمة بعد أن أحدث متغيرات في داخل المملكة، وقاد ما يشبه الانقلاب على رموز أسرته وقفز من الصفوف الخلفية إلى صف (ولي العهد) إلى خوض مغامرة كسر العظم مع بقية أفراد الأسرة المالكة والحاكمة وكان يحتاج إلى حدث كبير يتخفى من خلاله ويجد المبرر لممارسة كل طغيانه.. وكان له ذلك.. في ذات الوقت كان الفار هادي جراء خبرته السياسية المحدودة، بسبب الأوتاد الخطيرة التي وضعها الرئيس السابق صالح في ربط سياسة البلد بالسفراء العشرة وتحديداً بطغيان السفير الأمريكي الذي كان يصول ويجول ويتحكم بالقرارات والإجراءات وكانت اللقاءات مع اللجنة العسكرية العليا تتم بصورة مستمرة وتحدد فيها أساليب إدارة الشأن العام وسياسة اليمن وإزاء ذلك تحركت القوى الجديدة لاستعادة التوازن المفقود في السياسة اليمنية وامتلاك القرار الوطني، فكان اتفاق السلم والشراكة الذي وفر فرصة الخروج من سطوة التدخلات الأجنبية .. حينها تحركت السعودية وأوعزت للفار هادي بالمغادرة من صنعاء وفرض حالة جديدة من التدخلات ومن تحرك مفاعيل الارتهان للخارج وصار ذلك وحسم الموقف بأن أصبحت (عدن عاصمة مؤقتة) استوعبت هروب الفار هادي ونزوح الكثير من القيادات إليه تحت رعاية السفراء العشرة الذين كانوا يحكمون القرار اليمني.. ولم يكن يدري الفار هادي انه أمام إبرار جديد وهروب آخر من عدن وحدث ما حدث حتى بدأ التدخل العسكري السافر والمباشر وقيام الحرب ونشوب القتال .. ووضعت لها الحسابات واطلق عليها التسميات وحددت لها نقطة الصفر بعد عدٍ تنازلي لتعلن من واشنطن لتصل اليوم إلى تسع سنوات عجاف وإلى فوضى إقليمية لم يكن قادة الإقليم يظنون ان تحدث كل هذه الفوضى وانها ستؤثر على أمن الطاقة وانها ستجبر قادة دوليين على البحث عن صيغ سلام وانماط هدن وتوافقات بعد أن شعروا ان أمن الطاقة مهدد وأن النيران سوف تصل إلى عتبات بيوتهم .. لذلك وجدناهم يسارعون إلى مد جسور من التوافقات والى الحديث عن ضرورات السلام وأهمية أن تتوقف عجلة الصراعات الدامية القائمة في المنطقة وكان ديدنهم الحديث عن الجانب الإنساني..
وفي هذا المنظور يجب أن نعي جيداً أن مفردة (السلام) لا تأتي إلا بعد أن يكون الواقع قد عاش مرارات الحرب والقتال، لأن خاتمة كل هذه الصراعات طاولة الحوار والمفاوضات وهنا برزت مسقط عاصمة سلطنة عمان لتكون الواحة التي يلتقي عند تخومها المتصارعون والباحثون عن بصيص ضوء في انفاق الأزمات والحروب ومنها الأزمة والحرب في اليمن .. بعد أن كانت الرياض تتوجس خيفة من مسقط وترى في حيادها الإيجابي خروجاً عن طاعتها، وأدركت مؤخراً أن مرونة ودبلوماسية مسقط هي الدواء المسكِّن الذي تحتاجه القيادة السعودية وساهمت في التأثير على صنعاء اعتماداً على العلاقات الطيبة بين مسقط وبين صنعاء ومصداقية مسقط مع ان الكويت كانت قد احتضنت اللقاءات الأولى للتفاوض بين الفرقاء والخصوم والأخوة الأعداء ..
إلا أن دبلوماسية مسقط كانت الراجحة ومثلت دفعة مهمة للتفاوض، والذي أفضى إلى أن تحرص الرياض على أن ترسل وفداً كبيراً إلى صنعاء بقيادة السفير السعودي.. وقطعت مسافة مهمة في التقارب الذي قادته مسقط حتى وصل الأمر إلى تبادل الأسرى وفتح جزئي لمطار صنعاء، وميناء الحديدة وأزيحت العديد من التراكمات التي تركها صراع دام واستمر سنوات تسع ولم تتوقف بعد فوضى الحرب والاستهداف من كل الأطراف وبيد أن الجميع وصل إلى رؤية الاحتفاظ بأكبر جزء مما تحت الأيدي من جغرافيا ومن موارد ومن ديمغراف بشري.. المهم اليوم وفي هذه المرحلة وصلت الأمور إلى ما يشبه التوافق بما تحقق وفي انتظار الآتي وانتظار ما يتحقق في ميادين الجبهات والقتال لعل وعسى أن يشعر أحد الأطراف انه يعيش عبثاً وآن أوان أن يترك الساحة للأجدر والأكثر صلابة والأكثر قوة وحضوراً والأكثر تأثيراً سياسياً واجتماعياً.. مما يعني ان أبواب التفاوض مفتوحة على أكثر من احتمال وأكثر من زاوية وكل جهة أو فريق يبحث عن مستجد يخدم توجهاته..
والشيء الأبرز أن مسقط لم تغلق الأبواب، بل تركت نوافذ التطورات قادمة اعتماداً على ما يحدث في الرياض وفي طهران ومن خلفهما بكين وموسكو ..
ولا عزاء بالأمريكان الذين لم يحددوا ماذا يريدون بالضبط واكتفوا بأن يوجدوا مسافات لاصطياد عناصر القاعدة في اليمن كلما سنحت لهم الفرصة.
وفي مقابل كل هذه التطورات وتباين المواقف المستجدة ينشأ السؤال الرئيسي: هل تعلمت القيادة السعودية محتويات وأبعاد الدرس اليمني؟ وهل جرى استيعاب ان موقفاً جديداً وجاداً ومواقف صريحة قد بدأت تفرض وجودها في المشهد السياسي والعسكري؟.. ومن المهم ان يستوعب قادة المملكة ان توجهات جديدة أمسكت بالإدارة والحكم في اليمن ولم تعد ترى أهمية للنفوذ السعودي في اليمن، بل انها وضعت قضايا عديدة أمام المحك، أولى هذه القضايا رفع اليد السعودية عن صنعاء وعن قراراتها.. وكيف أخرس الصوت العالي للجنة السعودية الخاصة وأنه لا شرهة بعد اليوم وليس اقل من الندية هي من تحكم العلاقة بين صنعاء والرياض.
وتباعاً بدأت صنعاء تحدد خطوطاً عريضة لعلاقتها مع الرياض .. وهذا معناه ان السعودية أمام استحقاقات يمنية يجب أن تفي بها وان تدع وتترك الأساليب السابقة التي كانت تربطها بالرموز القبلية والاجتماعية والسياسية في اليمن وهنا يتبادر السؤال: هل بإمكانية الرياض أن تتخلى عن شهوتها التوسعية في اليمن والجزيرة وان تنأى بنفسها عن أساليب الضم والإلحاق ومحاولات ابتلاع الأراضي اليمنية تحت مسميات متعددة اعتادت عليها في السنوات السابقة ؟؟!