قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في محاضرته الثامنة عشرة من وصية الإمام علي لابنه الحسن – عليهما السلام: سوء الظن من أكبر ما يفتك ويدمِّر بنيان الأخوَّة الإيمانية ويُزلزلها ويُفكك عُراها

 

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
كان من ضمن ما تحدثنا عنه في درس الأمس على ضوء قوله “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((وَإِيَّاك أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطَايَا اللَّجَاجِ))، هو خطورة الخصومة، وخطورة الأحقاد التي تحصل للبعض عندما يدخل في خصامٍ مع أحد، فتدفع به لتجاوز الحق، أو تجاوز العدل، قد تورطه في الظلم، قد تخرجه عن التمسك بالحق، قد تجعله يتجه اتجاهًا منحرفًا في بعض الأمور، فهي حالة خطيرة. ومن خلال التجربة في الواقع، ومعايشة الواقع، يلحظ الإنسان، مدى سلبية هذه الخصلة، ومدى تأثيرها على الكثير من الناس، الكثير من الناس إذا دخل في خصومةٍ مع أحد: يتجاوز الحق، يتحرك وفق أحقاده، وفق دوافع الغضب في نفسه، يتأثر بحالة الانفعال النفسي، فيتعامل وفقها مع الآخرين، ومن خلال أيضًا ما لاحظناه في الواقع، وهو حالة موجودة على مدى التاريخ، أن البعض من الناس إذا دخل في خصومة مع شخص، أو مع أكثر من شخص، مع جهة معينة مثلًا، يؤثر عليه ذلك وتتراكم في نفسه العقد والأحقاد، فيصل به الحال إلى درجة أن يتنكر للمبادئ الحق التي كان يؤمن بها، وينحرف عن طريق الحق، ويخرج من صف أهل الحق، ويلحق بركب أهل الباطل، هذه الحالة تتكرر على مدى التاريخ لدى الكثير من الناس، تؤثر عليه أحقاده، وعقده الشخصية والنفسية، فتكون ردة فعله تجاه مشكلة معينة هي إما مشكلة شخصية، وإما مشكلة عملية في مستوى محدود، لكن ردة فعله تكون بمستوى أكبر، ثم تتعاظم أحقاده، وعقده النفسية، فتتحوَّل الحالة النفسية، والعقد النفسية إلى موقف، ثم يُبرَّر هذا الموقف ويُفلسَف له ثقافيًا، وبالذات عندما يكون الشخص ممن يمتلكون خلفية ثقافية ولو بسيطة، والبعض لا يحتاج حتى إلى ذلك، يُفلسِف لنفسه ثقافيًا وفكريًا، ويوصِّف موقفه على أساسٍ من ذلك، ثم يتنكَّر لمبادئ حقٍ ثابت، هو كان فيما سبق يؤمن بها، يعتقد بها، لكن عقدته النفسية ومَطِيَّة اللجاج تجاوزت به، وقفزت به، إلى تجاوز ذلك الحق الذي كان يؤمن به، وهي حالة خطيرة.
من المهم للإنسان أن يتنبه عند أي حالةٍ من حالات الخصومة، كيف يسيطر على نفسه فلا يتجاوز مساحة ذلك الإشكال، وتلك الخصومة، إلى ما عداها، كيف يحذر من نزغات الشيطان؛ لأن الشيطان يستغل تلك الحالات التي يكون الإنسان فيها في حالة انفعال وغضب، في حالة تذمرٍ واستياء، الحالة النفسية تلك يستغلها الشيطان، ولهذا يقول اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: 53]، فالإنسان إذا كان في حالة استفزاز؛ هو مستفَزّ بإشكالية معينة، بإساءة معينة، بقضية معينة، وفي بعض الحالات قد يكون الخطأ أصلًا عنده، ومع ذلك فهو في تلك الحالة التي هو فيها مستفَزّ، ومنفعلٌ، وغاضبٌ، ومشاعره متأججة، فالشيطان قد يستغله ويصطاده في تلك الحالة، يوجه إليه ضربةً قاضيةً تؤثر عليه، فيوسوس له ويدفع به إلى مواقف أكبر.
من المهم بالنسبة لكل واحدٍ منا، أن يكون اتجاهه الإيماني قائمًا على أسسٍ صحيحة، وثابتًا وراسخًا، وأن يدرك أن الجانب الإيماني والمبدئي، هو صلة بينه وبين اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ علاقتك باللّٰه “جَلَّ شَأنُهُ”. هذه العلاقة وهذه الصلة الإيمانية باللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وكل ما يرتبط بها من التزامات إيمانية عملية، لا ينبغي أبدًا أن تتأثر بأي إشكالية، بأي خصومة، مع أي شخص، مع أي طرف، مع أي جهة، لأنك تظلم نفسك، وتسيء إلى نفسك؛ عندما توجه ردة فعلك في إطار خصومة مع شخصٍ معين، أو جهةٍ معينة، فتوجه أنت ردة فعلك إلى ذلك الجانب بكله، الجانب الإيماني الذي يمثل صلةً بينك وبين اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تكون ردة فعلك ضد الحق الذي كنت مؤمنًا به، ضد الهدى الذي كنت تتحرك على أساس أنك متبعٌ له، ومقتنعٌ به، ضد الاتجاه الذي كنت ترى فيه أنه اتجاه يتجه بك نحو اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهذه الحالة حالة خطيرة على الإنسان، وكما قلنا هي حالة تحصل في الواقع وتتكرر في كل زمن، ولذلك على الإنسان أن يكون متنبهًا، وحذرًا، وأن يأخذ العبرة ممن تورطوا، في مثل هذه الحالة، يُعرف في كل زمان عمن كانوا في إطار الحق، وفي صف الحق، ويتجهون على أساس المواقف التي يؤمنون بها، أنها مواقف حقٍ، التوجه فيها هو استجابة للّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، طاعة للّٰه، من أجل اللّٰه “جَلَّ شَأنُهُ”، ثم ينطلقون على أساس مبادئ على أساس أنها مبادئ إلهية، تستند إلى القرآن الكريم إلى الحق الواضح، ثم إذا بهم بِدءًا من مشاكل محدودة معينة، أو اعتبارات شخصية، أو طموحات شخصية، أو عُقد شخصية، أو إشكالات عملية محدودة، تنكروا لكل الحق لكل ذلك الاتجاه الحق، انحرفوا، ثم يزداد تماديهم. والإنسان إذا خرج عن صف الحق، إذا ضل بعد الهدى، إذا زاغ عن النهج الحق بعد أن وُفِّقَ في البداية للسلوك فيه، والسير في طريقه، فإنه يتمادى في الباطل أكثر وأكثر، ولذلك فهو يزداد ضلالًا، يزداد بعدًا عن الحق، تتطور مواقفه السلبية، يومًا بعد يوم، يتنكر للمزيد من الحقائق والحق، ثم يومًا بعد يوم يتقبل المزيد والمزيد من الضلال والباطل، حتى الذي هو من أوضح الواضحات بطلانه؛ يصبح مقبولًا لديه، وهكذا يتمادى أكثر فأكثر، إلى أن تتم عنده حالة الزيغ والانحراف، ويضل ضلالًا بعيدًا، يبتعد عن الحق في مسافات شاسعة جدًّا، والإنسان في مثل هذه الحالة قد يتصور أنه يغيظ الآخرين، ممن اتخذ ردة الفعل تحت عنوان أنها ردة فعل تجاههم، وهي لم تعد تجاههم فحسب إنما تجاه الحق، تجاه الهدى، تجاه المواقف الحق، قد يتصور أنه بذلك يغيظهم، وكلما ساء موقفه، زاد ضلاله، كبر زيغه، زاد انحرافه، كبرت إساءاته، يرتاح نفسيًا أكثر، هي حالة خذلان- والعياذ باللّٰه، لكنه يعتبر أنه يغيظهم أكثر، فغرقه في شنآنهم وشقاقهم، أصبح فتنةً له، وعاملًا من عوامل ازدياد ضلاله، فقد أجرمه الشِّقاق ودفع به اللجاج، إلى أن يزداد ضلالًا، وأن يزداد باطلًا، وأن يحمِّل نفسه الأوزار والآثام العظيمة، فقد يؤيِّد باطلًا كبيرًا، قد يؤيد جرائم رهيبة، قد يؤيد مظالم فظيعة، قد يعادي من لا يجوز له عداؤهم، قد يسيء، ويفتري، ويتكلم بالبهتان العظيم، ويرتكب المظالم الكبيرة حتى في الموقف والكلام؛ وإن لم يستطع على مستوى الفعل، وبذلك هو يحمِّل نفسه الأوزار الكبيرة. فإذا دخل في حالة من ردود الفعل، زاد الأمر سوءًا أكثر وأكثر، يبحث عن الباطل الأكبر ليتشبث به، أو يقدمه؛ لأنه قد غرق في مسألة الشقاق، ويتصور أنه بذلك يغيظ الآخرين، فهو يبحث عما يغيظهم، ويرى فيه أنه يغيظهم مهما كان باطلًا، مهما كان سيئًا، مهما كان انحرافًا، فالغرق في هذه الحالة أمر خطير للغاية، كذلك على مستوى التشبث بالموقف الخطأ الذي فيه ظلم، أو فيه تنصل عن مسؤولية، أو عن عمل عظيم ومهم، أو التشبث بإشكالات في الواقع العملي، ودخلتْ فيها حالة الخصومة الشخصية فأثرت على الواقع العملي، كل تلك الحالات هي حالات خطيرة جدًّا.
على الإنسان أن يتنبه في مسألة الخصومة، أولًا لتكن خصومتك مع أعداء اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والسقف في باب الخصام لهم والخصومة معهم: سقفٌ عالٍ جدًّا، أنت تواجههم بكل ما تستطيع، وتتحرك ضدهم بكل ما تقدر، لكن أيضًا في حدود الضوابط الشرعية ووفق التعليمات الإلهية؛ لأنك محكومٌ سواءً في موقفك من العدو أو الصديق، محكومٌ كمؤمن بقِيَم، بأخلاق، بتعليمات من اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنت اتجهت كإنسان مؤمن على أن تُخضع نفسك لأوامر اللّٰه، وتعليماته، وتوجيهاته، وأن تتحرك في هذه الحياة برشد، ووعي، ومسؤولية، وحكمة، وليس وفقًا للغريزة النفسية، للمزاج الشخصي، تلك الحال هي حالة الذين يتَّبعون أهواء أنفسهم، الذين يتجهون غريزيًا كالحيوانات، فيفقدون القيمة الإنسانية، والقيمة الأخلاقية، التي أراد اللّٰه لهم أن يتحلوا بها، فهذه نقطة مهمة جدًّا؛ لأنها من أهم ما يؤثر على الكثير من الناس.
أيضًا مما مر بنا في درس بالأمس ونستكمله اليوم، الحديث الذي تحدث به أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، عن رعاية الأخوَّة، وكان حديثه عن هذا الجانب حديثًا مهمًا، ومؤثرًا، وملفتًا، ويدل على الأهمية القصوى للأخوَّة، تحدثنا بالأمس عن أن الأخوَّة: هي قيمة فطرية، وإنسانية، وقيمة اجتماعية، وقيمة إيمانية.
الإنسان منذ نشأته، ينشأ عادةً في محيطه القريب بين قرابته، قد يكون له إخوة وأخوات من النسب، فيعيش هذه الروابط القريبة بينهم، ويشعر ماذا يعنيه رابط الأخوَّة في حياته معهم، فهو يعيش معهم حالة التعاون، التضامن، التكاتف، التعاطف، التراحم، ويحس بقيمة هذه الرابطة وهو ينشأ ضمنها، ويحس بالفارق ما بين واقعه معهم، وواقعه خارج ذلك المحيط الاجتماعي القريب، ثم تتوسع الدائرة في الروابط الأخوية مع الأصدقاء، مع المجتمع من حوله، فتصبح علاقاته مع البعض ترقى إلى ذلك المستوى من الأخوَّة، وكأنهم إخوة من النسب، وأحيانًا بأكثر من ذلك، بأكثر مما تربطه بإخوته من النسب، في مستوى التعاون، المحبة، الإعزاز، التقدير، التضامن، التراحم، التكاتف، وهكذا، فهذه العلاقة يعتادها الناس وينشؤون ضمنها؛ لأن الإنسان من أساسه كائنٌ اجتماعي، لا ينشأ بمفرده، ويعيش بمفرده، حياته مرتبطة بالواقع الاجتماعي من حوله، مع المجتمع، معاملاته كل شؤون حياته تربطه بالمجتمع من حوله.
في بعض المجتمعات تُعطى هذه الروابط الأخوية قيمة كبرى إلى درجة الإفراط، يعني إلى درجة تتجاوز حتى القيم، يعني يعطون مسألة الأخوَّة، يعطونها من الأهمية، ويرتبون عليها من الالتزامات ما قد يكون فيه تجاوز حتى للقيم، وهذا يعبِّر عن أهمية هذه المسألة، يعني عن إدراك الناس لمدى أهميتها، ولكن يحصل في بعض الحالات إفراط، وفي بعض الحالات تفريط، ولذلك مثلًا معروفٌ في المجتمعات القبلية ذات التركيبة القبلية، كيف تعزَّز هذه الروابط الأخوية بين أبناء القبيلة الواحدة، إلى درجة العصبية للواحد منهم، والتضامن معه، والتعاون معه، والوقوف معه حتى في الموقف الباطل، بل عندنا في اليمن مثل معروف في الوسط القبلي: (بين اخوتك مُخطي، ولا وحدك مصيب)، يعني بين إخوتك ولو كانوا على خطأ وكنت مخطئًا معهم، ولا تنفرد عنهم، ولا تخرج من صفهم، وكنت أنت على صواب، لتتجنب ما هم عليه من الخطأ. هذا مثال من أمثلة إعطاء المسألة أهمية؛ لكن إلى درجة الإفراط، التجاوز للحق. مع أن البعض من الناس- لا- هو يبتعد عن هذا إلى درجة أنه لا يقبل بأن يبقى بين إخوته مصيبًا، ولا وحده مخطئًا، يعني لا يقبل بين إخوتك مصيب معهم، في طريق الصواب، في الموقف الصواب، في الاتجاه الصواب. ولا تتجه مع أعدائك، تبتعد من إخوتك إلى من هم أعداء لك، حتى وأنت في صفهم، هم في واقع الحال أعداء لك، لا يريدون لك الخير، البرنامج الذي انطلقت معهم على أساسه هو هوانٌ لك، وإذلال لشعبك، واحتلال لوطنك، هو امتهان لكرامة أمتك، هو خدمة لأعداء الأمة… إلخ. فتتفاوت الحالة بين إعطائه هذه المسألة الأهمية إلى درجة الإفراط، أو أحيانًا إلى درجة التفريط، من لا يعطي للأخوَّة أي أهمية ولا قيمة.
والإنسان إذا التفت إلى أهمية هذه المسألة في القرآن الكريم، في معيار الإيمان باللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: يدرك الميزة لها، وكيف بُنيت في تعليمات اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على أسس صحيحة، وقُدمت لها ضوابط، وقيم، وأخلاق ترعاها، لكي تكون في الاتجاه الصحيح، وبالتالي تكون السلامة من الإفراط والتفريط؛ لا يحصل التجاوز الذي يجعل الناس يتضامنون ويتعاونون ويتآخون حتى في الباطل، والظلم، والفساد، والمنكر، والبغي، والإجرام، وغير ذلك، ولا يفرِّط بالمسألة، بل يرعاها لتكون في الإطار الذي فيه صلاح الناس في دينهم ودنياهم.
فالأخوَّة الإيمانية: هي ذات أهمية كبيرة في الواقع الإيماني، في الانتماء الإيماني، ولهذا يقول اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: من الآية 10]، ويقول “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}[التوبة: 71]، فأخوَّتهم جزءٌ من إيمانهم، وولائهم لبعضهم البعض جزءٌ من إيمانهم، وثمرته: النهوض بمسؤولياتهم الجماعية المقدسة، وتحركهم لتحقيق الأهداف العظيمة المقدسة والمهمة، فتصبح للأخوَّة الإيمانية هذه القيمة وهذه الأهمية بما ارتبطت به من أهداف عظيمة، من أعمال عظيمة، من مسؤوليات مقدسة ومهمة، فيها خيرهم في الدنيا والآخرة، فلما أصبحتْ جزءًا من إيمانهم كانت ضمن التزاماتهم، يعني لابد منها، لكي تكون مؤمنًا ولكي تحقق لنفسك الانتماء الإيماني، فإن جزءًا من التزاماتك الإيمانية التي تفي لك بذلك: هو مؤاخاتك لإخوتك المؤمنين، هو أن ترتبط بهم ضمن هذه العلاقة الأخوية، أن يكون الولاء بينك وبينهم، والتعاون، والتناصر، والتكاتف على هذا المستوى الذي وجه اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إليه، وأن ترعى ذلك، أن تكون حريصًا على ذلك، ثم دخل ضمن ذلك آداب، التزامات، ترعى هذه الأخوَّة، في التعامل فيما بينهم وفق تعليمات اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: التراحم، التواضع، التعاون، البذل للمعروف، الاحترام المتبادل، وتجنب ما يؤثر سلبًا على هذه العلاقة، وعلى هذه الأخوَّة الإيمانية، مثلما ورد في سورة (الحجرات): النهي عن البغي، النهي عن السخرية، عن الكلام الجارح، عن الهمز واللمز، عن التعامل السيء، عن التنابز بالألقاب، عن كثير مما يدخل، عن الغيبة، عن النميمة، عن سوء الظن؛ لأن سوء الظن من أكبر ما يفتك ويدمِّر بنيان الأخوَّة الإيمانية، ويزلزلها، ويفكك عُراها، خطيرٌا جدًّا، سوءُ الظن خطيرٌا جدًّا. ثم يدخل ضمن ذلك النصح، التعاون على البر والتقوى، وهكذا، ويخدم ذلك؛ لأنه مهما كان هناك من احترام، من تعاون، من سعي للالتزام بتلك القيم، التي من خلالها يحصل ويتم الرعاية لهذه الأخوَّة والحفاظ عليها، لكن في واقع الناس تحصل زلَّات، تحصل أحيانًا بعض الإشكالات، يحصل أحيانًا سوء تفاهم، فكيف نتعامل مع ذلك، أتت التعليمات في القرآن الكريم بالسعي لصلاح ذات البين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}[الأنفال: من الآية 1]، بكظم الغيظ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[آل عمران: من الآية 134]، تحولت إلى صفة لأهميتها، لم يقل فقط اكظموا غيظكم واعفوا عن الناس، بل قال: {وَالْكَاظِمِينَ}؛ لأنها حالة مستمرة لديهم، هي الغالبة عندهم في طريقة تعاملهم، مع ما قد يستفزهم من إشكالات، من تصرفات خاطئة، من زلَّات في التعامل، فهم يكثرون من كظم الغيظ، وهي حالة راقية جدًّا، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، وهكذا.
في واقع الحال، وفي الواقع العملي قد يحصل فتور لهذه الأخوَّة، وله أسباب متعددة في مقدمتها: عندما تغلب الأنانية على الإنسان، ويتمحور حول ذاته، يعني تصبح اهتماماته متمحورة حول شخصه، وليس حول القضايا الجامعة، التي جمعت الكل، الأهداف التي جمعت الكل، أصبح يعمل في إطار نفسه، في إطار اهتماماته الشخصية، وحساباته الشخصية، ويتمحور حول ذاته، وهذا يؤثر على مدى العلاقة مع الآخرين، ويضيق مساحة التعامل، التعاون، التفاهم، ويسبب حتى على المستوى النفسي الضِّيق مع الآخرين. ضعف الارتباط بالقضايا الجامعة، والأهداف الجامعة، إذا ضعف ارتباط الإنسان بها، لم يعد عنده اهتمام بالموقف الجامع، بالقضية الجامعة، بالأهداف الجامعة، كلما ضعف ارتباطه بها، كلما ضعفت وفَترَت علاقته بإخوته، في إطار التوجه الذي كان فيه؛ لأنه لم يعد متفاعلًا معهم على نفس الموقف، على نفس القضية، على نفس الهدف، وقد يكون ذلك أيضًا في إطار ما تحدثنا عنه ما قبل ذلك، يعني في إطار التمحور حول ذاته، واتجاهه من الأهداف العظيمة والمهمة، إلى الأهداف الشخصية، والحسابات الشخصية، والاعتبارات الشخصية، لكن كلما بقيت اهتمامات الإنسان أكبر، وإيمانه بالقضية الجامعة أكبر، وارتباطه بالأهداف المقدسة أكبر، فهو يعي، ويحس، ويستشعر، بقيمة هذه الأخوَّة، وأهميتها لتحقيق الهدف الجامع؛ لأنه لا بد من تحرك جماعي، يدرك أنه لابد من التعاون، أن التعاون قوة، أن التوحد قوة، أن التآخي قوة، أن التفرق ضعف، ولذلك يتجه على هذا الأساس، هو يدرك الثمرة العظيمة للأخوَّة، والقيمة الكبيرة لها، والنتيجة التي هي في غاية الأهمية التي تنتج عنها.
ولذلك من الواقع يتضح مدى الفاعلية العالية لمن تجمعهم رابطة الأخوَّة الإيمانية إلى المستوى المطلوب، لأنْ يكون بينهم من التآخي ما ينبغي، وفق توجيهات اللّٰه وتعليماته، يحملون لبعضهم البعض المحبة، والاحترام، والتقدير، نفوسهم سليمة على بعضهم البعض من الغِلّ والأحقاد، يتعاملون فيما بينهم على أساس التراحم، يحملون لبعضهم البعض، ولأنفسهم كالجسد الواحد: حالة الرحمة، والمحبة، والحرص على بعضهم البعض، والاهتمام ببعضهم البعض، والقضية الجامعة التي يذوبون فيها، ويتحركون من أجلها، كيف تكون فاعليتهم عالية، في أي عمل يتجهون فيه، كيف يكون نجاحهم عاليًا، كيف يكون إنجازهم كبيرًا؛ لأن جهودهم تتضافر، وتتلاقى كل اهتماماتهم تلك فتتحول إلى مجموع جهدٍ واحد، منصهر، ملتئم، مجتمع بكل ما تعنيه الكلمة، فتكون ثمرته ثمرةً عظيمة، يتحول ذلك الجهد إلى جهد موحد، فتكون ثمرته مهمة.
أحيانًا يكون من المؤثرات التي تصيب الأخوَّة بالفتور: حالة الانشغال الشديد للجميع، كلٌّ منشغل في نطاق عمل معين، ينبغي أن يكون هناك أيضًا تواصل، يكون هناك أحيانًا لقاءات، اجتماعات، أن يتذكر الجميع بعضهم بعضًا ممن ارتبطوا بهذه الروابط الأخوية في مناسبات معينة؛ لأن: أحيانًا مثلًا تتنوع مجالات العمل، هذا يتجه في عمل هنا، وذاك يتجه في عمل هناك، وهكذا.
فالمحافظة على الروابط الأخوية: ببذل المعروف، بالتذكر، بالاجتماعات في الوقت المتاح والممكن، باللقاءات في الأوقات التي هي ممكنة، بالتواصل؛ كما أوصانا النبي “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: ((أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ وَتَوَاصَلُوا وَتَبَاذَلُوا))، بذل المعروف هذا مما يساعد على الحفاظ على الأخوة.
أما في الإشكالات فينبغي السعي لحلها، {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}، قبل أن تعظُم جروحها وتأثيراتها النفسية، وقبل أن تصنع الفجوة الكبيرة.
ثم في واقع الإخاء والإخوة الإيمانية، هناك مراتب لهذه الأخوَّة، يعني البعض مثلًا جمعتهم الظروف، والأعمال، والمواقف الواحدة، وأصبحت بينهم روابط قوية جدًّا بفعل ذلك، لديهم ما يجمعهم كأرضية مشتركة: هو تلك المبادئ التي يؤمنون بها، ذلك التوجه الذي يتجهون فيه، ثم اندمجوا من خلال الواقع العملي الذي عاشوا فيه جميعًا: الهمَّ الواحد، الآلام والآمال، التضحيات والمواقف، وما تعزز في إطار ذلك من تعاون، من تراحم، من مواقف، من إحسان إلى بعضهم البعض، من معروف إلى بعضهم البعض، حتى تعززت تلك الروابط، بشكلٍ كبير، لكن ذلك لا يعني أن يكون الحال مع بقية من هم في الإطار الإيماني، في الاتجاه الإيماني، في الموقف الإيماني، موقفًا مختلفًا عن ذلك، بمعنى أن تنحصر علاقتك الأخوية بذلك المحيط المحدود؛ أولئك الأشخاص الذين عرفتهم شخصيًا، عشت معهم زمنًا طويلًا، ثم لا تنظر إلى الآخرين وكأنهم إخوة لك في الإيمان، هذه الحالة لا ينبغي. قد تتفاوت مستويات الإخاء والروابط، لكن كمبدأ واحد يربطك بالجميع، وتربطك بقيمه وأخلاقه، التزامات عملية، تحمل نفس المشاعر الإيجابية وإن لم تكن بذلك المستوى تجاه البقية، عندك استعداد تام للتعاون معهم، تتفاعل مع أي حالة مؤثرة، تستجيب لأي توجه لازمٍ في ذلك، لأي مستجدٍ أو شيءٍ يستلزم تحركك، أو تفاعلك، أو تعاونك، أنت تحمل إرادة الخير لهم، المحبة لهم، العطف عليهم، الرحمة لهم، الاهتمام بأمرهم، هناك مستوى لا بد منه مع الجميع، وأن تحمل الشعور بالأخوَّة الإيمانية تجاه الجميع، هذه مسألة أيضًا مهمة.
في رعاية المستوى الأعلى من الأخوَّة؛ قرأنا بالأمس قول أمير المؤمنين عَلَيهِ السَّلَامُ: ((احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ))، وموضعه وأهله هم الذين يقدرون لك ذلك، يتأثرون بذلك، يعني إذا قابلت تباعده بالدنو، تحركت فيه مشاعر الإخاء، استحى، وقدَّر موقفك، واعتبر موقفك هذا موقفًا راقيًا من ناحية الإخاء، من ناحية القيم. إذا قابلت شدته باللين، تأثر واستحى على نفسه، وكان لذلك أثر إيجابي في نفسه، هؤلاء هم أهله وموضعه. كما قلنا بالأمس، الناس صنفان: لئامٌ وكرام، كريم: ردة فعله تجاه المعروف، تجاه الإحسان، تجاه مقابلة الإساءة بالإحسان، ردة فعل إنسانية، أخلاقية، إيمانية. واللئيم يزداد سوءًا، يزداد إساءةً، يزداد تكبرًا، يزداد تباعدًا، ليس لذلك أثر إيجابي في نفسه.
ثم في بقية المستويات تحدثنا بالأمس: أن يكون الإنسان منصفًا، متسامحًا، متفاهمًا، قريبًا، وهكذا، يعني لكل شيء مرتبة، في إطار رعاية هذه الأخوَّة يقول أمير المؤمنين: ((لَا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ))، في مسألة العداء والصداقة، هناك اعتبارات مهمة، ليست المسألة مزاجية، أن تعادي هذا بكل بساطة، وتصادق هذا بكل بساطة، بدون الأخذ بعين الاعتبار: مبادئ، قيم، أهداف، أسباب، أسباب عملية، أسباب مشروعة.
فالعداء يكون لأسباب مشروعة، وإلا كان حرامًا، عندما تعادي من لا يجوز لك أن تعاديه، ليس ظالمًا لك، ليس مجرمًا، ليس سيئًا، ليس طاغيةً، ليس مفسدًا، ليس ظالمًا، هو مسلم عادي، لا يجوز لك أن تعاديه هكذا، بطرةً، أو اعتباطًا، أو مزاجًا، أو مجرد انفعال على سبب تافه، لا يستوجب العداء، فالعداء محكوم بضوابط وأسباب تجعله جائزًا ومشروعًا. كما الإخاء كذلك له اعتباراته، وله أيضًا معاييره وأسسه، في هذه الحالة لا تتخذ عدو صديقك صديقًا، وصديقك في الموقف الحق، وعدوه ذلك هو أيضًا في الموقف الذي ينبغي أن تعاديه، وألا تقف معه ضد صديقك، فتعادي صديقك.
((وَامحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ))، النصح: هو يعتبر من ضمن واجبات الأخوَّة، ومسؤوليات الأخوَّة، أن تقدم النصيحة الخالصة، السالمة من كل غِش، هي نصيحة بكل ما تعنيه الكلمة، ليس فيها أي غش لأخيك، أنت تقول له فعلًا ما يجب أن تقول له، ما هو حق، ما هو صواب، وأنت متأكد من ذلك، فقدم له النصيحة؛ لأن النصح من مسؤوليات الأخوَّة الإيمانية، النصح الذي تذكِّره به تجاه تقصيره في مسؤولية معينة، أو واجب معين، أو التزام معين، أو تنبهه به تجاه خطأ معين، وهكذا، النصح المفيد في أي مجال من المجالات.
((حَسَنَةً كَانَتْ أَو قَبِيحَة))، حسنةً كانت النصيحة، تحسن عنده، يستسيغها، يرتاح بها، أو كان هو يستقبحها، وليس لأنها في أصلها قبيحة، أما الكلام الذي هو في أصله قبيح، أو ما تطلبه وهو في أصلة قبيح، لا ينبغي أصلًا أن تأمر به، ولا أن تنصح به، ولا أن تطلبه من أحد، وإنما المقصود بالنسبة له بحسب مزاجه الشخصي؛ لأن البعض من الناس قد يستاء من بعض النصائح، لا تعجبه؛ لأنها ليست وفق هوى نفسه، ليست وفق مزاجه.
ومع مسألة مسؤولية النصح: هناك مسؤولية في أن تراعي آداب النصح أيضًا، أن يكون النصح بطريقة أخوية، ليس بكلامٍ جارح ومستفز، يولد ردة فعلٍ عكسية، ليس بتوجيه الإساءات، والتوبيخ الشديد، والكلام الجارح، قدم النصح بآداب النصح، بطريقة أخوية، بكلام، بكلام الناصح، الحريص، المحب، الذي يريد الخير لمن ينصحه، ليس في إطار الاستفزاز، والاستغلال للتوبيخ، وتوجيه الإهانة، وغير ذلك.
في بعض الحالات أيضًا مطلوب أن يكون النصح على انفراد، وليس بين الآخرين، وهكذا، راعِ آداب النصح.
((وَتَجَرَّع الْغَيْظَ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَلَا أَلَذَّ مَغَبَّةً))، ولهذا أثنى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على من يكظمون الغيظ، جعل هذا من أهم صفات المتقين، التي أثنى عليهم بها ووعدهم بها بالجنة، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[آل عمران: من الآية 134]، الغيظ في بداية كظمه: يعتبر تجرُّعه مُرًّا، الجرعة في بداية الأمر؛ وقت حالة الانفعال، وقت حالة الاستفزاز والغضب، هي مُرَّة، لا يستسيغها الإنسان، هو في حالة انفعاله يريد أن يعبِّر عن هذا الانفعال، أن يترجم هذا الانفعال في قوله أو في تصرفه، لكنه بتماسكه، وصبره، وكظمه للغيظ، إلى درجة ألا يُظهره أصلًا، ولا يتعامل على أساسه، فهو يتعامل برشد، بحكمة، يتحرى الصواب، وبذلك يحقق النجاح، ويتفادى الكثير من السلبيات، من السيئات، من الأخطاء، التي يقع فيها من لا يكظم غيظه، من ينجرّ إلى التعامل وفق غيظه وغضبه وانفعاله.
فعواقب كظم الغيظ هي عواقب يستحليها الإنسان فيما بعد؛ لأن الإنسان سيهدأ فيما بعد، وإذا فكر ماذا كان سيتصرف لو اندفع وفق غضبه، ثم أدرك إيجابية تصرفه لمّا كظم غيظه، وكيف كانت النتيجة، فهو يرتاح يحس بالحلاوة حينئذٍ، فتجرُّعك لمرّ كظم الغيظ في البداية، سيتلوه فيما بعد، بعد أن تتجاوز تلك الحالة من الانفعال، والتوتر، والغضب الشديد، وقد هدأت، سيعقبها أنك تشرب الكأس الحلو عندما تستحلي تصرفك الراشد، المتزن، الذي تحريت فيه الصواب، وتدرك أيضًا أنك تفاديت ما كنت ستُقدم عليه مع غضبك، وأحيانًا لو تصرف الإنسان وفق غضبه كان سيرتكب خطأً كبيرًا، أو قرارًا خاطئًا، أو يظلم، أو يتجاوز الحق، أو يُسيء إلى نفسه، إلى قيمه، إلى أخلاقه، إلى كرامته، كان سيظهر إنسانًا دنيء النفس، كان سيظهر إنسانًا سيئًا. الذين يتورطون مع غضبهم وانفعالهم، يصلون إلى حالات أحيانًا مخزية، ومسيئة جدًّا، يهبطون بها حتى ولو كان لهم مثلًا مكانة معينة، أو اعتبار معين، يهبطون إلى الأسفل.
فالإنسان يستحلي العواقب، ويدرك أهميتها وقيمتها، ويدرك النتيجة العظيمة، عندما قال: ((وَلَا أَلَذَّ مَغَبَّةً))، أنت تدرك كم كانت النتيجة مهمة جدًّا، وإيجابية جدًّا، تُشرِّفك، ترفع رأسك، وفي نفس الوقت تحقق لك في الواقع أشياء مهمة، وتقيكَ من مساوئ كثيرة، ومخاطر كثيرة، وفضائح كثيرة، وتصرفات سيئة، إلى آخره.
((وَلِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ))، تعاملْ باللين، بدلًا من أن تكون إنسانًا يعتمد في تعامله مع الآخرين أسلوب الفضاضة والغلظة، كن ممن يعتمد اللين في تعامله مع الآخرين، التعامل القائم على أساس الاحترام، والأدب، والبعيد عن الفضاضة والغلظة. اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مما أثنى به على نبيه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آله”، وهو الأسوة وهو القدوة لنا، قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: من الآية 159]، لنت لهم: أنت ليِّن في التعامل معهم، في طريقة التصرف معهم، اللين في التعامل، وسبق الحديث عن الرفق، وأنه كقاعدة عامة، إلا في حالات استثنائية، إذا كانت النتيجة عكسية.
ففي الواقع العملي، وفي التصرفات، إذا كنت تتعامل مع كل من يغالظك: أن يتصرف بطريقة فيها شدة أو قسوة، كل من عاملك قابلته بنفس الشدة والقسوة في الواقع التعاملي؛ في واقع المعاملة مع الناس، مع رفاقك، مع زملائك، مع أسرتك، إذا كنت تتعامل بذلك، كم سيحدث من مشاكل، أول ما يواجه الإنسان في كثير من الحالات، حالة القسوة بالقسوة، الغلظة بالغلظة، الكلمة القاسية بالكلمة القاسية، التصرف السيئ بالتصرف السيئ، ينتج عن ذلك الكثير والكثير من المشاكل، من السلبيات، من الأخطاء، يبقى الجوّ مكهربًا في أغلب الأحوال، ومتوترًا، تسود حالة التوتر في علاقة الناس، لكن عندما تقابل الغلظة باللين في كثير من الحالات، في واقع المعاملة مع الزملاء، مع الإخوة، مع الأسرة، في الواقع المجتمعي، في المعاملة، يكون لهذا أثر إيجابي. الكثير من الناس إذا كانت بقيَتْ فيه إنسانية وضمير حي: يستحي، يتأثر عندما تقابل غلظته باللين، بالكلام المؤدب، بالكلام المحترم، يتأثر بذلك، ((فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ))، اللّٰه يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: من الآية 34].
((وَخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فإِنَّهُ أَحْلَى الظَّفَرَيْنِ))، حتى في التعامل مع العدو، لا يكفي فقط: القهر، والغلبة، والقسوة. عند الانتصار، عند الغلبة، تعاملْ أيضًا بعد ذلك بعد الظفر، بماذا؟ بالفضل، بالإحسان، بالعفو، هناك مساحة للعفو، مساحة للتفضل، وأنت في موقع المنتصر، مثلما فعله رسول اللّٰه “صَلَوَات ُاللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آله” لما انتصر في فتح مكة؛ وهو انتصارٌ عظيم، ماذا قال لأهل مكة؟ ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، لم يتعامل بنزعة انتقامية لمحاسبتهم على كل ما قد حصل خلال كل تلك السنوات التي حاربوه فيها.
فبعد الظفر، بعد الانتصار، بعد الغلبة والقهر هناك الفضل: له قيمته، له أثره. وكذلك من يمكن أن يؤثر فيه الفضل من الأعداء، يعني التفضل، الإحسان، التعامل الراقي، إذا كان يؤثر في بعض الأعداء ابتداءً، ويخرجه عن حالة العداء، فذلك أفضل. من كانت له البعض دوافع نفسية للعداء، قضايا معينة، لديه قابلية أن يتأثر بأسلوب الفضل، بدلًا من أسلوب القهر، والغلبة، والكسر، والتحطيم، فاستخدمْ هذا الأسلوب، وهو أحلى حتى في أثره، وعاقبته، ونتيجته، وزينته، وجماله، وقيمته، من القهر والغلبة لوحده.
((وَإِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذلِكَ يَوْمًا مَا))، يعني إذا كان منه ما يوجب القطيعة، ابتدأك هو بالقطيعة، أو عاملك معاملة سيئة جدًّا، أو اتخذ منك موقفًا سلبيًا، فلا تقابل ذلك بموقفٍ سلبيٍ نهائيٍ، تقطع أواصر الأخوَّة بشكلٍ نهائي، ولا تبقي مجالًا له في المستقبل. تفادَ الإساءة إليه بقدر ما تستطيع، تجنب الاستفزاز له بقدر ما تستطيع، حتى يبقى له مجال إذا أراد يومًا ما أن يعود إلى إخوته، لا تكن قد راكمت من الإساءات والمواقف السلبية، وأبديت من الموقف السيئ الحاسم النهائي، ما يعيقه عن العودة، ابقِ له مجالًا للعودة مستقبلًا.
((وَمَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْرًا فَصَدِّقْ ظَنَّهُ))، من ظن بك خيرًا: أمَّلَ فيك خيرًا، فأتاك بناءً على ذلك؛ لأنه يريد منك أن تحسن إليه بشيء، أو أن تحل له مشكلة، أو أن تعينه في شيء، وهو في إطار الخير، في إطار المعروف، في إطار الحق، في إطار الإحسان، فلا تُخيِّب رجاءه وأمله، وظنه فيك؛ لأنه ظن فيك خيرًا، أتاك وهو يؤمِّل أنك من أهل الخير، أنك ممن يمكن أن يرى فيهم أو يؤمل فيهم أنهم سيعملون ذلك الخير، أو ذلك الإحسان، أو ذلك المعروف. لكن إذا كان يريد منك باطلًا، أو أن تؤيده في باطل، أو أن تشفع له في باطل، فانصحه، لا تستجب له في الخطأ، لكن في الخير، في الخير، ظن بك خيرًا وأتاك بناءً على ذلك، فلا تخيِّب ظنه، صدِّق ظنه، يعني أعطِهِ ما أمَّل فيك من الخير، أحسِن إليه، أو أعِنْهُ، أو اشفع له فيما فيه المصلحة، له بقدر ما تستطيع؛ ما يمكنك أن تفعله، أو تقدمه، أو تعينه به، بحسب قدرتك أو تأثيرك.
((وَلَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه))، وهذه نقطة مهمة؛ لأن البعض من الناس يقول: [هذا أخي، لا أحتاج إلى أن أهتم به]، وقيمة الأخوَّة: أن يكون هناك رعاية لهذه الأخوَّة، ثم يهتم بالآخرين بالغ الاهتمام، ولا يرعى شيئًا من حق الإخاء، من مسؤوليات الإخاء، فيكون أضاع الأخوَّة.
((وَلَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ))، ولا يكن أهلك؛ أهلك: قرابتك، زوجتك، أسرتك، أقاربك، لا يكونوا أشقى الخلق بك، كما هي عادة بعض الناس، هو إلى الآخرين محسن، وأخلاقه تجاههم عالية، لكن إذا عاد إلى منزله فهو في تعامله مع زوجته، مع أسرته، هو سيء التعامل، يتعامل بدون أي احترام، بكل قسوة، بكل جُرأة، بالكلام السيئ، بالكلام البذيء، لا يرحمهم، لا يحسن إليهم، يتعامل معهم معاملة سيئة، معاملة قاسية، يبطش، يتجبر، فيكونوا هم أشقى الناس به، وأكثر الناس معاناة منه، وهذا دليلٌ على انعدام الإيمان، انعدام الوعي، انعدام الأخلاق، وأنها لم تنطلق منه، من كرامة نفسه، أو من إيمانه، أو من زكاء نفسه، وإنما كانت طريقته في التعامل مع الآخرين من خارج أسرته بتلك الأخلاق، بذلك الإحسان، بذلك الاهتمام، من منطلقات أخرى، وإلا كيف غابت تلك الأخلاق، كيف غابت تلك الروحية روحية الإحسان، في التعامل مع قرابته، مع أسرته، مع زوجته؟! وهذا سلوك سلبي جدًّا، من يحمل هذه، من يتصرف بهذه الطريقة، ومع زوجته يتعامل معها بدون أي احترام، بإساءة، بقسوة، بدون أي تحمُّل، أبسط إشكالية أو كلمة؛ وتعاملَ أقسى التعامل، ليس عنده أي تحمُّل، ولا أي إحسان، تعامله جَلِف تجاهها، أو مع أولاده كذلك وأسرته. البعض يكون معهم في تعامله مسيئًا إليهم، إلى درجة أن يحوِّل وضع منزله إلى وضع مأساوي، تغيب فيه الرحمة، الشفقة، الإحسان، الاحترام، التعامل الأبوي الحنون الذي يُفترض منه.
((وَلَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ))، فيمن زهد عنك، مَن لا يريدك أصلًا، لا يريد علاقةً معك، لا يريد أن يستجيب لك فيما تريده منه، هو زاهدٌ فيك؛ يعني لا يريد علاقةً معك، ولا ارتباطًا معك، ولا صلة بك، فلا تحاول أن تفرض نفسك عليه؛ لأن هذا سيكون على حساب كرامتك، سيكون بطريقته فيها إذلالٌ لنفسك، ولكن تكون المسألة مبنية على وعي وفهم صحيح، يعني يكون تقديرك للموقف من الآخرين؛ لأن البعض من الناس طبعه حساس جدًّا، يعني أبسط إشكالية؛ وكانت كافيةً عنده في أن يحكم على الآخر بأنه زاهدٌ عنه، أنه لا يريده، أبسط إشكالية أو أبسط كلمة، لا المسألة تتضح، إذا كان لا يريدك أصلًا، فلا ترغبنّ فيه، هذا يدخل في الصداقة، يدخل في موضوع الزواج، يدخل في مواضيع كثيرة، في موضوع الروابط والعلاقات، نطاقه واسع، فزهِّد نفسك عنه.
((وَلَا يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ))، في الأخوَّة؛ إذا كان أخوك قويًا على القطيعة، جريئًا عليها، وهذا حال بعض الإخوة، ليس عنده تقدير للأخوَّة، لا بالحس الإنساني والمشاعر الإنسانية، ولا أيضًا بالدافع الإيماني، يرقى إلى مستوى أن يرعى الأخوَّة، فإذا كان أجرأ وأقوى على القطيعة، كن أقوى على الصلة. وأنت فيما أنت أقوى عليه من الصلة والإحسان: أنت في الموقف الأشرف، في الموقف الأرقى، في الموقف الإنساني والإيماني الذي يشرِّفك، وهو في جرأته على القطيعة في الموقف الخاطئ.
((وَلَا تكُونَنَّ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْإِحْسَانِ))، ما أهم هذه الكلمة. البعض من الناس جريءٌ على الإساءة، وسريعٌ إليها، سريعٌ إليها، يتهور تهورًا في الإساءة، لأبسط الأسباب، لأتفه الأسباب، لأبسط الأمور، يسارع في الإساءة، جريء على الإساءة، ولا يتورع في أن يسئ على أي مستوى، قد يرجمك ويتكلم عليك بكلمة مزعجة جدًّا، مسيئة للغاية، قد يجرح مشاعرك إلى أبلغ حد، قد يتخيَّر العبارة الأكثر جرحًا للمشاعر ليرميك بها، ليوجهها نحوك، جُرأة على الإساءة، وتسرع على الإساءة، وهذا يدل على ضعفٍ في إيمان الإنسان، بل في تقواه لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في إنسانيته، في أخلاقه، في كرم طبعه. المفترَض أن يكون الإنسان أقوى على الإحسان، أقوى منه على الإساءة، بمعنى أنك في مجال الإحسان قوي، وجريء، وسريع، ومبادر، ولكنك تشعر في ضميرك، في إيمانك، في أخلاقك، في مروءتك، في شهامتك، في إنسانيتك، تشعر بالتحرُّج من الإساءة، فلست ذلك الذي يسارع إلى الإساءة، ولست ذلك الجريء على الإساءة، تحجزك عن ذلك، ويدفعك إلى التحرج من ذلك: إنسانيتك، دينك، ضميرك الحي، شرفك، شهامتك، مروءتك، أخلاقك العالية، كرم طبعك، وعلى الإنسان أن يعوِّد نفسه على هذه المسألة: أن يكون أقوى على الإحسان منه على الإساءة؛ لأن البعض من الناس فعلًا أقوياء على الإساءة، وجريؤون، وأبطال وشجعان للإساءة، سيرمي بأسوأ كلمة، أو أقذر كلمة، أو يتصرف بأي تصرف مسيء، لا يقدِّر مشاعر الآخرين، ولا يستشعر المسؤولية تجاه ما يقول أو يفعل، لا يستحي من اللّٰه، ولا يستحي من خلقه. فاحرص على أن تكون أقوى على الإحسان.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛

قد يعجبك ايضا