في مسارات التاريخ وسياقاته كانت المؤشرات دالة على أن وجود الآخر أو التالي كان يرتبط سببياً بالأول أو السابق.. فالأمويون مثلاً كانوا سبباً في وجود العباسيين من خلال الحالات القهرية التي خلقوها، فصنعت روح المقاومة للفناء القهري، وهكذا دواليك في كل الحركات الاجتماعية السياسية في التاريخ، وصولاً إلى العصر الحديث الذي شهدنا فيه بزوغ القومية من تحت نيران الاستعمار، وبزوغ الاشتراكية من تحت قبعات الاستغلال والغبن، بيد أن الذي يمتاز به العصر الحديث عن العصور التي سبقته هو تطور البعد الثقافي من الشخصنة والفردانية إلى الشعار.
فالقوميون التفوا حول شعار «أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة» والإخوان المسلمون حول شعارهم «الله غايتنا .. والرسول قدوتنا.. والقرآن منهجنا.. والجهاد سبيلنا.. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.. »، والاشتراكيون التفوا حول شعارهم «حرية، اشتراكية، عدالة اجتماعية»، وما يؤخذ على تلك الشعارات أنها تظل ثابتة وثباتها يجعلها في قائمة المقدس عند أتباع الحركة الاجتماعية أو السياسية ولذلك تعجز كل حركة اجتماعية أو سياسية عن التطور وتعجز عن تفاعلها مع الشروط الموضوعية للتحول والانتقال والتغيير، وهو الأمر الذي يمكننا قراءته تحت سماء ومناخات الربيع العربي وفي اليمن على وجه الخصوص، فالحركة القومية تمترست حول رموزها التاريخيين، وعجزت عن مقاومة الحالات القهرية التي واجهتها وعجزت عن التحديث والتجدد في بنيتها العامة، فكيف لها أن تحدث انتقالاً هي عاجزة عن تحقيقه لذاتها، وكذلك الحركة الاشتراكية التي تقف على أطلال الأمجاد القديمة دون أن تبدع واقعاً جديداً يتوافق مع لحظتها التاريخية المعاصرة ويتفاعل مع قيم العصر البديلة، أما حركة الإخوان فقد كانت تخلق أسئلة العصر الحضارية دون أن تتمكن من الإجابة عليها، وحين تشعر بالعجز تعود إلى نقاط مضيئة في التاريخ لتبرير عجزها أو تتمترس وراء التأويلات، ولذلك فهي لا تملك مشروعاً نهضوياً أو حضارياً ومن لا يملك مشروعاً لا يمكن للجماهير أن تعول عليه في إحداث التغيير والانتقال.
وحين نتحدث عن التغيير والانتقال في ظل غياب البعد المعرفي للجذر التكويني وغياب الدراسات الاجتماعية والانثروبولوجية فنحن نتحدث عن أماني، والأماني هي تعبير عن حالة تطلعية في ظل معوقات واقعية موضوعية، لم نملك القدرة المعرفية على تفكيكها حتى نتمكن من ابتكار البدائل وبما يساهم في العملية الانحرافية في المساق التاريخي .
وأمام مثل ذلك تصبح حاجتنا إلى المعرفة في البناء المتناغم مع الجذر التكويني والمتفاعل مع المتغيرات العصرية أكثر ضرورة وأشد إلحاحاً في ظل ما شهدناه من حالات جدل واسع حول بناء الدولة في مؤتمر الحوار الوطني، فالقوالب الجاهزة والنماذج العالمية في شكل الحكم ونمطه لم تتأثر بها الدولة اليمنية التاريخية بل ابتكرت نموذجها الخاص وشكلها المعبر عن تكوينها وأبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية، ولذلك رأينا التناقض بين النماذج والأشكال التي خضنا تجربتها في تاريخنا المعاصر بين حاجات المجتمع الذي نسوس ضروراته التحديثية، إذ نشأت حالات تصادمية بين مكونات المجتمع والتعبيرات السياسية مثل حالات الصدام بين المؤسسة الدينية والقوى الطلائعية، والصدام بين الرموز الاجتماعية والدولة، فالصدام مع المؤسسة الدينية أوقعنا في حفرة الفراغ الحضاري والثقافي، الذي عمل على إنتاج ازدواج الشخصية، وتنافر السلوك وشكل تعارضاً بين الفكر والممارسة، والصدام مع الرموز الاجتماعية عمل على تعطيل سلطة القانون وغياب الدولة واغتراب المجتمع، وسيادة الثقافة التقليدية وبسبب ذلك ظلت كل العمليات التحويلية في ذات المربع الذي بدأته، إذ كانت مظهراً شكلياً لم يلامس الأسس البنيوية للمجتمع، فالوحدة اليمنية مثلاً حملت مشروعاً نهضوياً وتحولياً كاد أن يصل إلى كل البنى المجتمعية بيد أن حرب 1994م حولت ذلك المشروع إلى ظاهرة شكلية، فالثقافة التقليدية تجلت ملامحها من خلال مشروع الشيخ الذي بدأ بعد 7 – 7 -1994م، وعلى أثرة كانت منظومة الحكم كلها ذات بعد معياري واحد، فالسلطة التشريعية كان جل قوامها من الرموز الاجتماعية، والجهاز التنفيذي والأمني والعسكري خضع للمعيارية الاجتماعية وغاب القانون والاستحقاق الوظيفي فالعرف كان أقوى من القانون حتى في معيارية الوظيفة العامة، تلك المقدمات كانت سبباً مباشراً وغير مباشر في شعار الحراكين باستعادة الدولة، كرمزية على غيابها وطغيان مشروع الشيخ الاجتماعي الذي تماهى مع مشروع الشيخ الديني كان عاملاً مهماً في غياب الدولة واغتراب إنسان المحافظات الجنوبية أكثر من اغتراب إنسان المحافظات الشمالية بسبب الحضور المكثف للدولة في الجنوب إبان فترة حكم الحزب الاشتراكي في حين كان حضورها حضوراً جزئياً في المحافظات الشمالية وأيضاً متفاوتاً بين الفينة والأخرى .
ما تخلص إليه هو القول إن ثمة خصوصية يمنية يجب أن تجد تعبيرا عنها في شكل وبنية الدولة القادمة حتى تمتد بصيغة تفاعلية مع الماضي لتبدع الحاضر والمستقبل، فالشعور بالقيمة الثقافية والحضارية هو الامتلاء الذي يبحث عن الأجد والأروع ويحض على الابتكار والإبداع ويعمق من قيمة الانتماء للفرد والجماعة ويوثق عرى الآصرة الوطنية ويعزز من قيمة يمنية اليمن.