إبراهيم محمد الهمداني
ونستخلص مما سبق، أن قريش كانت تحظى بمكانة كبيرة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودينيا، في أوساط القبائل العربية، وكان أساس ذلك التكريم والإجلال ديني، سواء من حيث التموضع المكاني، جوار الكعبة البيت الحرام، أو من حيث الرعاية الإلهية الخاصة، وهو ما يوضحه السيد القائد يحفظه الله بقوله:- «في مكة كان هناك الكعبة (البيت الحرام المقدس) والحج إليه، استمر الحج في أوساط العرب آنذاك، وكانت قريش في مكة تحظى بمكانة اجتماعية كبيرة في الوسط العربي؛ بطبيعة مسؤوليتهم في إدارة شؤون الحج والكعبة، وبطبيعة أنهم لا يزالوا هم الصفوة من ذرية إبراهيم وإسماعيل «عليهما السلام»، من نسل إسماعيل بن إبراهيم، فكان لهم حضورهم في الوسط العربي، واحترامهم في الوسط العربي، ولا ينالهم أي استهداف من جانب القبائل العربية الأخرى التي تعرف أنها ستحج، وهي تريد أن تحج ولا يكون لها مشكلة مع قريش».
وإلى جانب المكانة الاجتماعية الرفيعة، وما نتج عنها من حصول الأمن والسلام، حظيت قريش أيضا بمكانة اقتصادية كبيرة، جلبت لها الرخاء والرفاهية وسعة العيش، في حين كان غيرهم من القبائل يموتون جوعا، يقول السيد القائد يحفظه الله:- «قريش – أيضًا – كان لهم رحلات تجارية، ونشاط تجاري إلى اليمن، وإلى الحبشة في الصيف، ولهم – أيضًا – إلى الشام {رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ}[قريش: من الآية2]، يعني: رحلةٌ منها إلى الشام، ورحلةٌ منها إلى اليمن أو إلى الحبشة، كانت واحدةٌ منها في الصيف والأخرى في الشتاء، رحلات تجارية تعود لهم بوفرة اقتصادية وثروة اقتصادية ضخمة، والإقبال إليهم من الحجيج يساعد على هذه الثروة، وتنامي هذه الثروة، ولهذا قال الله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش: 1-3]، يعني: البيت الحرام في مكة {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}[قريش: الآية4]، فحظوا بنعمة الأمن والاستقرار، وحظوا- أيضًا- بنعمة الوفرة الاقتصادية والغناء والثروة، ولكن لم يشكروا الله على هذه الثروة وهذه النعمة، وكانوا هم – أيضًا – ضائعين كحال غيرهم في حالة الشرك، حالة الكفر، المفاسد الأخلاقية… إلى غير ذلك».
ربما كان ذلك الإلف لنعمتي الشبع والأمن، الذي عاشته قريش جيلا بعد جيل، قد أفقدها متعة الشعور بهما، والإحساس بضرورة الحفاظ عليهما، من خلال أداء شكرهما، بل عمدت قريش إلى استغلال تلك النعم العظيمة، في سبيل الكفر بالله، والشرك به وإضلال عباده، خلافا لما اراد الله أن تكون عليه مكة، كما يقول السيد القائد يحفظه الله:- «أن يكون فيها الخير ورغد العيش وسعة المعيشة، حتى يساعد ذلك على استقرار هناك لصالح الحجاج، الذين يؤمنون البيت الحرام، وعمارة هذا البيت الحرام، بالطاعة والعبادة والذكر لله سبحانه وتعالى، في أجواء آمنة ومستقرة، على المستوى الأمني والمستوى الاقتصادي والمعيشي، وكما هي العادة وكما نشاهد اليوم، كان البعض من أؤلئك من كفار مكة ومن مشركي مكة كانوا يعتبرون لأنفسهم الفضل هم، وليس لله ولبيته الحرام، ولوجود بيته الحرام الفضل عليهم، اليوم وكما نشاهد النظام السعودي، الذي يستغل البيت الحرام ويستغل الحج ويستغل العمرة أيضا في الحصول على أموال هائلة جدا، باعتبارها أكبر معلم سياحي ديني في العالم، ولا يماثله معلم آخر، ربما في التوافد إليه، في الحرص على الوصول إليه، في زيارته في الحج إليه.. يستفيد منه الأموال الكبيرة يستفيد منه على مستويات أخرى، يحاول أن يستغل سيطرته وهيمنته عليه، حتى على المستوى السياسي وعلى سائر المستويات، مع كل ذلك يتمنن، وكأنه هو من له المنة في وجود البيت الحرام في مكة، وكأنه هو الذي يخدم هذا البيت، وليس يستغله ويكسب منه والذي يعطيه لا يساوي شيئاً أبدا، بقدر ما يكسبه ويأخذه ويستفيده، وهذا معلوم على كل ذلك المجتمع، وتلك البيئة القليل القليل منها، هم الذين أسلموا، هم الذين استجابوا لرسالة الله سبحانه وتعالى».
إن الله تعالى قد أحسن إلى مجتمع قريش، فأكرمهم بالشبع وصان ماء وجوههم، من ابتذال السؤال وذل الحاجة، ثم حفظ أرواحهم وأموالهم، بمطلق الأمن والأمان، وبمقدار ما وفر لهم من سبل إبعاد شبح الجوع والمجاعة عنهم، فقد هيأ لهم من أسباب الأمن ما يجعلهم قوة مرهوبة الجانب، وكل ذلك كان من الله تعالى، ببركة هذا البيت الحرام، وما يحمل من دلالات الإيمان بالله، وإشارته إلى أوليائه الحقيقيين، وفي هذا فوائد تربوية أخلاقية وإيمانية كبيرة، يجب التحلي بها، في سياق القيم الاعتقادية والممارسات السلوكية، على السواء، وفي مقدمتها ضرورة ربط القلوب بالإحسان الكبير العظيم، الذي غمر الله تعالى به كل تفاصيل حياتنا، واستشعار عظمة نعمه وفضله وكرمه، والتذكر الدائم بأنه صاحب الفضل والمنة، في كل نعمة نصيبها وخير نتقلب فيه، وأن نؤدي حق نعم الله علينا، بما يليق بها من الشكر الفعلي في عباده، وتحقيق استخلافه الذي يرضيه عنا.
ونحن نعيش أجواء هذا الشهر المبارك، شهر الخير والإحسان، والبر والإطعام، يجب علينا تعظيم شعيرة الصيام، وتحقيق مقتضاها من التقوى، الذي أراده الله منا، وأن نسارع في أعمال الخير والبر والإحسان، وأن نشكر نعم الله في عباده، بجلب المنافع لهم، وصيانة قيمتهم الإنسانية، وأن نكون من الذين «يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ»، وأن نستشعر ضعفنا وحاجتنا وفقرنا الدائم إلى عطف الله ورحمته وفضله وكرمه، وأن نتذلل ونحن نشارك في إطعام أخواننا الفقراء والمحتاجين، لأن المطعِم والرازق والمعطي، هو الله الكريم العظيم القادر المدبر، والمال مال الله، والملك له وحده، وما نحن إلا أدوات، يجب علينا شكر فضله، فيما انتدبنا وأوكل إلينا، من أداء حق عباده، وصون أعراضهم وكرامتهم، ولا نجعل فعل الخير بابا للظهور، وطريقا للشهرة والرياء، وأن نبذل ما في وسعنا، من أجل تعزيز التكافل والتراحم والتعاون، وإذا ما استطعنا تحقيق الأمن الغذائي للمجتمع، فقد عملنا على تحصينه من الاختراق الخارجي، وأسهمنا في تقويه تحصيناته، ومساعدته في مواجهة الخوف، الناتج عن العدوان والحصار، الذي تشنه قوى تحالف العدوان والاستكبار، إقليميا وعالميا، بحق الشعب اليمني ظلما وعدوانا.
Prev Post
Next Post