(أخلاق العمل عند ماكس فيبر في المسيحية والإسلام)
قبل البدء ألفت عناية القارئ الكريم في هذه الحلقة هي اختصار لمقالتين حتى يكون النص بعيدا عن التعقيد وسهلا للقارئ العادي خففته من كثر من التفاصيل المتعلقة بتعقيدات المنهج وذلك لأن أطروحة ماكس فيبر هي بالأساس للرد على منظري البنية التحتية ماركس وقومه الذين ينظرون للبنى الاقتصادية باعتبارها المحرك للتاريخ بينما فيبر يرى أن الأفكار هي المحرك للتاريخ أبطال نظرية ماركس من خلال إثبات دور حركة الإصلاح الديني البروتستانتية في تشكيل العالم الحديث، وبعد استكمال الحلقات سأعيد نشرها في مقالة واحدة وأضيف لها الفقرات المحذوفة للراغبين في استكمال الفائدة.
لا نزاع في أن الرأسمالية هي من أنتجت العالم الحديث فهي كانت وراء الثورة الصناعية في إنجلترا ومنها إلى كل أوربا والعالم، وهي من نقلة البشرية من العالم القديم إلى العالم الحديث ومن المرحلة الزراعية إلى المرحلة الصناعية.
في أطروحته الأساسية (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية يتساءل ماكس فيبر لماذا ظهرت الثورة الصناعة في البلدان التي تسطير فيها الثقافة البروتستانتية مثل بريطانيا وهولندا وأمريكا وسويسرا قبل غيرها من الدول الكاثوليكية؟ ولماذا رجال الأعمال وأصحاب الحيازات الرأسمالية وممثلو الشرائح العليا المصنعة من اليد العاملة في بلد متعدد الطوائف مثل ألمانيا هم بأغلبية كبيرة من الطائفة البروتستانتية؟ وبشكل عام لماذا المناطق الأكثر غنى وأكثر ميلا للعمل والإنجاز والإبداع هي المناطق التي اعتنقت البروتستانتية منذ القرن السادس عشر؟
يقول فيبر إن ذلك يعود بدرجة رئيسة إلى أخلاق العمل البروتستانتية والمعتقدات الكلفانية (نسبة للمصلح الديني جون كالفن مؤسس الكالفينية) التي تشجع على العمل والمثابرة والكفاءة المهنية والإنتاج والكسب العقلاني للثروة واعتبار النجاح الدنيوي شاهدا على الخلاص الشخصي والنعمة الإلهية وغير من المبادئ التي جعلت البروتستانت أكثر استعدادا للعقلانية الاقتصادية سواء كانوا يشكلون شريحة مسيطرة أم مسيطرا عليها الأغلبية أم الأقلية كما هو الحال مع الأقلية البروتستانتية في فرنسا التي كانت أحد أهم العوامل في تطور الرأسمالية والصناعية فيها وعلى النقيض من تلك الكاثوليكية- فعلي حده- هي الأكثر انفصالا عن العالم، وترسخ في اذهان معتنقيها لا مبالاة كبيرة إزاء ثروات هذا العالم… الكاثوليكي هو أكثر هدوء ومسكون بعطش قليل جدا إلى الكسب ويفضل حياة آمنة ولو مع مدخول ضئيل على حياة مليئة بالإثارة والمجازفة ولو وفرت له الثروات والأمجاد ويطابق بين الحكمة الشعبية التي تقول \”إما إن تأكل جيدا أو تنام جيدا\”. والحالة الحاضرة للبروتستانتي والكاثوليكي، يفضل البروتستانتي أن يأكل جيدا بينما يفضل الكاثوليكي أن ينام هادئا.
يميز فيبر بين الرأسمالية كنظام اقتصادي وبين روح الرأسمالية فالرأسمالية قبل أن تتطور إلى نظام اقتصادي مستقل وأشكال مؤسسية حديثة تشكلت في البداية كثقافة اقتصادية وأخلاقيات عمل وهو ما يعنيه فيبر بروح الرسمالية كثورة ثقافية على أخلاقيات العمل للاقتصاد السلفي أو الثقافة الاقتصادية ما قبل الرأسمالي التي تقلل من أهمية لنشاط الوظيفي، وذلك بالتأكيد على البحث العقلاني عن الربح من خلال ممارسة مهنة، والكسب المشروع نتيجة للمبادرة الفردية والمثابرة والكفاءة المهنية، والكسب كغاية في حد ذاته وليس وسيلة لإشباع الحاجات المادية وأهمية استثمار الوقت…، الخ.
ويضيف ان روح الرأسمالية تجد جذورها في اخلاق العمل البروتستانتية والنزعة الزهدية للكالفينية وعقيدة الخلاص، ففي عقيدة كالفن ان مصير الانسان في الاخرة محدد سلفا كقضاء محتوم ولا يستطيع تعديله ولكن هناك علامات الانسان ان يتعرف على مصيره الأخروي والنجاح الدنيوي من علامات الخلاص للفرد وبالتالي تحولت عقيدة الخلاص الكالفينية الى دافع يحفز المؤمن الباحث عن الخلاص على النشاط والإنتاج والاستخدام العقلاني للثروة، كالفن لايري في الثروة عائقا اما نفوذ الإكليروس والمدان من وجهة نظر أخلاقية هو الطمأنينة والراحة في التملك، والنشاط هو الذي يخدم مجد الله، العمل وسيلة تسكين والدواء النوعي للوقاية ضد الاغراءات والعمل غالبا ما يشكل هدف الحياة ذاته كما بين الله في اية القديس بولس \”إذا لم يرغب احدكم ان يعمل فليكف عن الاكل أيضا\” والامتناع عن العمل هو مؤشر على غياب النعيم، اما في الكاثوليكية فاني الخلاص يتحقق من خلال بعض الشعائر التي يؤديها المؤمن امام القديسين من قساوسة وكهنة الكنيسة.
وفي سبيل تأكيد نتائج نظريته عن دور حركة الإصلاح البروتستانتية في بعث روح الرأسمالية وإعادة تشكيل العالم الحديث أعاد مقارنتها بالفرق الدينية والاديان الشرقية وهي كلها حسب فيبر اما لا تشجع على الاخلاق الاقتصادية او مشبعة بروح الرهبنة واحتقار العالم ولا يستثني من ذلك الإسلام مع انه لم يفرده بدراسة مستقلة كما فعل مع الكاثوليكية واليهودية والكونفشيوسية والطاوية والهندوسية وجاء كلامه عن الإسلام مجرد تحليلات متفرقة في ثنايا كتاباته عن الظاهرة الدينية العالمية وخلاصة ما طرحه فيبر عن فشل الإسلام في إنتاج الشروط المهيئة لنشوء وتطور الرأسمالية ينحصر في ثلاثة أسباب أو تفسيرات:
التفسير الأول: يتعلق بمحتوى الأخلاق الإسلامية وهنا لا يركز على تحليل محتوى النص الأساسي للإسلام (القران) بل على المعنى الذي يتخذه عند القوى الاجتماعية أو الفرق الدينية الحامل الاجتماعي للقيم الدينية، أن الإسلام- على حد وصف فيبر- دين توحيدي مبين على نبوة أخلاقية ترفض السحر ونظرا لأن الله كلي القدرة وأقدار البشر محددة سلفا كان من الممكن للنزعة الزهدية أن تنشأ في الإسلام كقلق خلاص أو ديانة خلاصية تشجع على روح المبادرة والإنتاج والرغبة في النجاح الدنيوي باعتبارها علامات على الخلاص الأخروي لكنها أعيقت بسبب طبقتين اجتماعيتين طبقة المحاربين وطبقة المتصوفة.
ينظر فيبر للمحاربين القوة الرئيسية في الإسلام أو النقلة الأوائل للإسلام ويقول إنهم أعادوا تكيف محتوى الرأسمالية الدينية للتوافق مع مصالحهم واحتياجاتهم الدنيوية وتأويل طلب الخلاص من خلال فكرة الجهاد ليصير طلب للأرض من خلال الفتوحات، وفي أخلاق المحاربين مصدر الثروة هو الغنائم التي يتم إنفاقها لإشباع حاجات المحاربين ويشجع الإسلام على جمع الثروة بالانخراط في الجهاد المقدس وبالتالي صرفهم عن السبل العقلانية لتحصيل الغني والنجاح وفي النهاية تحول الإسلام إلى دين حربي قومي عربي ولم يتطور مفهوم الخلاص العجواني الفردي كما حصل مع الكلفانية البروتستانتية.
من ناحية ثانية الصوفية اندفعت نحو الاحتياجات العاطفية الطقوسية منقطعة عن العالم وأدخلت مكونات سحرية وطقوسية خففت من صرامته التوحيدية، وحولت الزهد من زهد داخل العالم إلى زهد في العالم، ومن زهد في الاستخدام اللاعقلاني للمال إلى زهد في المال، ومن موقف لتغيير العالم إلى موقف هروبي من العالم وفي النهاية تم سحب الإسلام في اتجاهين متعاكسين جماعة المحاربين سحبته نحو أخلاق العسكر والصوفية في اتجاه الباطنية وبالتالي فشل الإسلام في إنتاج النزعة الزهدية الملاءمة لروح الرأسمالية كشرط ضروري لصعود الرأسمالية العقلانية.
التفسير الثاني: افتقار الإسلام لتقليد قانوني عقلاني نظامي وهذا التفسير مبني على أساس أن فيبر لا يرى القيم الأخلاقية كافية لوحدها لتفسير الرأسمالية، وان ثمة سلسلة من الشروط الضرورية ينبغي توفرها لكي تنشأ الرأسمالية وفي القلب منها القانون النظامي العقلاني والسوق الحرة وأنماط التملك، فالشريعة الإسلامية كانت مثالية وكانت قواعدها فوق قانونية مشتقة من الوحي الإلهي وأقوال النبي ولا يمكن مدها بسهولة على نحو منهجي لتغطي المستجدات ما سمح بوجود فجوة بين المثال والممارسة حاول فقهاء الإسلام تغطيتها بواسطة ما يعرف بالحيل الفقهية… ولانت أحكام الشريعة غير مرنة وأحكام القضاة غير ثابتة فإن الإسلام قد افتقر إلى شرط ضروري لنشوء الرأسمالية وهو وجود تقليد قانوني نظامي معتمد (انظر الإسلام وأطروحة فيبر ص14).
التفسير الثالث: إن غياب ثقافة اقتصادية تولد العناصر التأسيسية لروح الرأسمالية في الإسلام يعود لأنماط الحكم الأبوية، والمؤسسات السياسية والاقتصادية الأبوية التي حكمت تاريخ الإسلام.
وفي الحلقة القادمة- بإذن الله- سنناقش آراء ماكس فيبر سواء تفسيره لنشأة الرأسمالية أو سلامة موقفه من الإسلام والكاثوليكية والأديان الشرقية الأخرى.