الحرب على الهوية: مكة المكرمة.. التدمير السعودي للمقدسات والآثار الإسلامية
هكذا فعل الوهابيون ببيت النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة
حسب تعريف اليونسكو للآثار الدينيّة والمواقع المقدسة فإن الآثار الدينية هي “أقدم المناطق الدينية التي لها قيمة حيوية في التنوع الثقافي والتي تستطيع أن تُبرز روح ديانة معينة. وأن المواقع المقدسة هي تلك التي تمثل قيمة روحية خاصة للشعوب والمجتمعات المحليّة مهما مرت عليها القرون. وحسب تعريف قاموس كامبريدج للآثار فإن كلمة الأثر تعني: أي مبنى تاريخي أو مكان يُشكّل جُزءا مهما من تاريخ أي دولة أو بلد أو ديانة. غير كامبريدج واليونسكو، يُعرّف عالم الآثار الإنجليزي كريستوفر تيلي الآثار بأنها “المعالم التي تساعدنا على تخيل الماضي واختباره”. وهذا التعريف لا يقتصر على المباني التي شُيّدت لممارسة الشعائر الدينية فقط بل كل مبنى أو عمل معماري يستطيع تحقيق حالة من الجمال الروحاني. ففكرة القداسة في العمل المعماري تتجاوز المبنى الديني المُخصص للعبادة لتشمل كل مبنى كان بشكل طوباوي وسيلة في تحقيق صورة من صور الجنة على الأرض. وحيث إن المقدس ليس هو مكان ممارسة الشعائر فقط، فإن التأثير الروحاني لبعض المباني غير التعبدية قد يكون عاملا في نقل أهل الديانة لرحابة ما وراء المادي؛ لرحابة المطلق والمتجاوز.
وإذا كان كل مقدس ينتمي للحالة الإنسانية بعمومها؛ فهو في الوقت نفسه له حالة من الخصوصية الثقافية المرتكزة على المؤمنين به. لذلك وجب في أي عملية تخطيط عمراني لأي فراغ مُحيط بأثر/معلم/مبنى مقدس أن تراعي أمرين، الأول هو، التعامل مع الرصيد التراثي للأثر، فلا تضيف للبيئة ما لا يتناسب مع طابعها أو يتناقض معه.
الأمر الآخر، أن تراعي عملية التخطيط العمراني، السياق الحضاري العالمي؛ فالتمايز القيمي/التراثي لا يجب أن يأتي مُتخلفًا عن سياق العمران العالمي؛ أي أن الحنين للماضي لا يجب أن يظهر في هيئة مبانٍ لا تلبي الاحتياجات الأساسية للإنسان. بالرغم من أن العديد من مباني ومعمار مكة القديم، خاصة الذي يعود لعهد النبوة، يعتبر آثارًا تاريخية اليوم حسب تعريف الآثار اصطلاحا، ووفقا لما أقرته اليونسكو لمعنى كلمة أثر، إلا أن وتيرة الهدم تحت مزاعم التشييد العمراني الذي يتبناه النظام السعودي منذ السبعينيات يخالف ما أقرته اليونسكو من معايير “واجب” اتباعها في تطوير الأماكن الأثرية في مكة على وجه التحديد التي لم يتم مراعاة سياقها التاريخي أو خصوصيتها الدينية المقدسة. يجري في مكة منذ ما يقارب الخمسة عقود عملية تغيير ممنهج لهوية المدينة، التي كانت على مر قرون قيمة روحية للمسلمين، لتتحول إلى مدينة عالمية!
لقد صارت مكة المكرمة في ثوبها الجديد مدينة مزدوجة الهوية، والأسوأ، أن تسارع وتيرة البناء تُهدد بحسم ذاك الصراع الهوياتي لصالح العالمية والعولمة. ولكن الشواهد المرصودة توضح أن مكة المكرمة التي كانت يوما من الأيام واديا قاحلا يستقطب الحجاج في رحلة روحانية تطهيرية، قد تحولت إلى نطاق تجاري استثماري استهلاكي محوط بالفنادق الفاخرة وناطحات السحاب الشاهقة ومراكز التسوق العالمية. الموقع المعماري المهيمن على المدينة ليس المسجد الحرام حيث الكعبة المشرفة، محط أنظار وصلوات المسلمين في كل مكان، لكن ما يهيمن على المشهد هو فندق مكة الملكي وبرج ساعته البغيض الذي يرتفع لـ 1972 قدمًا فوق الأرض، هو واحد من أطول المباني في العالم، بل هو تطور ضخم لناطحات السحاب حيث يضم مراكز تسوق فاخرة وفنادق ومطاعم لفاحشي الثراء، لم تعد القمم الوعرة تهيمن على الرائي، لقد دُكت الجبال القديمة دكًا، ويحيط بالكعبة الآن التي تبدو كقزم هياكل الصلب والخرسانة، فيما يبدو مزيجًا قميئًا من ديزني لاند ولاس فيغاس.
بدأت المرحلة الأولى من تدمير مكة المكرمة في منتصف التسعينات. المباني القديمة التي لا تُحصى، بما في ذلك مسجد بلال، والتي يعود تاريخها إلى عهد النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، تم تجريفها من أساسها، البيوت العثمانية القديمة وأبوابها المنحوتة ببراعة، تم استبدالها بأخرى حديثة بشعة، وفي غضون بضع سنوات، تحولت مكة المكرمة إلى مدينة حديثة مع طرق متعددة الحارات تظهر للرائي كتقاطعات السباغيتي! ولا يمكن لعينك أن تخطئ الفنادق المبهرجة ومراكز التسوق. أما القلة الباقية من المباني والمواقع ذات الأهمية الدينية والثقافية فقد تم تدميرها في الآونة الأخيرة، حيث تم بناء برج الساعة في 2012 على أنقاض نحو 400 موقع تاريخي وثقافي، بما في ذلك المباني القليلة المتبقية والتي يعود عمرها لأكثر من ألف سنة، وصلت الجرافات في منتصف الليل، وشُردت الأسر التي عاشت هناك منذ قرون.
يذكر أن أحد المجمعات السكنية الاستثمارية تقف على قمة قلعة أجياد، التي بُنيت حوالي 1780م لحماية مكة المكرمة من اللصوص والغزاة، بيت السيدة خديجة، الزوجة الأولى للنبي محمد تحول إلى كتلة من المراحيض. وفي مقال نشر في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “تدمير مكة: عن الذي فعلته السعودية بالمسلمين”، أكد فيه الكاتب ضياء الدين ساردار أنه “بصرف النظر عن الكعبة نفسها، يحتفظ أصل المسجد الحرام بجزء ضخم من التاريخ، أعمدته الرخامية المنحوتة بشكل معقد تزينت بأسماء الصحابة، بنى تلك الأعمدة السلاطين العثمانيون، تعود تلك الأعمدة لأوائل القرن 16، وحتى الآن، هناك خطط تجري على قدم وساق لهدمها، وكذلك كل المناطق الداخلية من المسجد، ليتم استبدالها بمبنى على شكل كعكة الدونت!” وتابع ساردار في مقاله الشهير “المبنى الوحيد المتبقي ذو الأهمية الدينية هو البيت الذي نشأ فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى مدار معظم التاريخ السعودي، كان يُستخدم كسوق للماشية، قبل أن يتحول إلى مكتبة، ولم تكن مفتوحة للناس بالمناسبة.” وتوقع الكاتب في مقاله أن بيت نشأة رسول الله سيُهدم بعد دعوة الشيوخ الوهابيين إلى هدمه وتدميره! وقال “يبدو أن الأمر لم يعد سوى مسألة وقت فقط قبل أن يُهدم البيت النبوي ليُقام مكانه – على الأرجح – موقف للسيارات.
”إهمال مكة المكرمة المتعمّد في العام 2019، ظهر أمين العاصمة المقدسة، حينها، محمد القويحص على القناة السعودية الرسمية، وهلل للإنجازات في مكة بالقول “العاصمة المقدسة لديها العديد من مجالات العمل في مكة المكرمة، منها عملية الطرق والإنارة، والإنفاق وعملية السيول والأرصفة. إلى جانب الخدمات التشغيلية من أعمال النظافة والإصحاح البيئي”، لكن القويحص حينها خانته ذاكرته وتناسى أنه وقبل 4 أشهر من تاريخ المقابلة استقبل حوالي 500 مواطن من أهالي شمال مكة شاكيين له سوء الأوضاع الخدماتية في المدينة، حيث وعدهم بتطوير الخدمات فيها دون أن يتحقق أي شيء. لا تقتصر سياسات النظام السعودي على الإهمال ومنع حصول المواطنين على حقهم الطبيعي من الخدمات الحياتية الضرورية، بل تجاوزه للسعي وتحت مسميات عديدة مبتكرة سعوديا إلى تهجير أهالي الأحياء الأكثر سكانا . وفي هذا الإطار ، أعلنت “الهيئة الملكية” لمدينة مكة والمشاعر المقدسة، في وقت سابق، استهدافها إزالة ما يزيد على 4500 عقار بحي النكاسة في جميع المراحل. كما كانت هيئة تطوير منطقة مكة المكرمة قد أطلقت بمشاركة أمانة العاصمة المقدسة حملة لإزالة أكثر من 102 عقار ضمن المرحلة الأولى لتطوير منطقة النكاسة بمكة المكرمة. ويذكر أن عدد العقارات المستهدف إزالتها في المرحلة الأولى يبلغ 102 عقار ضمن 12 مرحلة، ویزعم المشروع توليه مهمة إنشاء العدید من المرافق الترفيهية والتجاریة والسكنیة.
انتهج النظام السعودي ما كان قد تبناه في ترويجه لهدم أحياء في جدة، حيث أخذت عمليات الهدم طابعاً أمنياً و صورت الحي على انه مخالف رغم وجود الكهرباء و بعدادات رسمية مما يضحد رواية المخالفات فلا يتم توصيل خدمة الكهرباء لعقار مخالف دون حجج شرعية وهو قانون متبع في كل بلاد الأرض. كما تم وصف الحي بأنه بؤرة للفساد والجريمة المنظمة للتستر على الهدف الحقيقي من إزالته وهو الاستيلاء على الأراضي التي تقدر بالمليارات لإنشاء مشاريع تجارية لحساب ولي العهد محمد بن سلمان الذي أطلق الذباب للنيل من سكان الحي لكسب الرأي العام وحتى لا يلقى اعتراضاً عند الإزالة وهو ما حدث فعلا فاغلب التعليقات تدور في فلك انعدام الأمن في حي النكاسة، وهو أسلوب الشيطنة الذي تنتهجه السلطات السعودية لتمرير مشاريعها لحساب الأمراء على حساب الناس.
من جهته، تبنى الإعلام الرسمي “السعودي”، حينها، الترويج لعملية التهجير القسري لأهالي الحيّ حيث بثّت قناة الإخبارية مشهداً لما وصفته “نوعية المساكن التي يقطنها معظم أهالي هذا الحي”، والتي بُنيت بالطوب الأحمر، وما أحدثت من “تشوه بصري” للقادمين من الدائري الثالث من ناحية غرب مكة المكرمة”، وفقاً للقناة.