التجارة الرابحة

نوال أحمد

 

 

إن هؤلاء الشهداء المؤمنين الكرام قد بلغ بهم إيمَـانهم درجات عالية من الانشداد نحو الله سبحانه وتعالى، والرغبة في الحصول على رضاه، والرغبة فيما وعد به أولياءه المؤمنين فأصبحوا لا يحتاجون -تقريبًا- إلى من يعرضهم على الله ليبيعهم منه، بل هم من انطلقوا ليبيعوا أنفسهم من الله، ليبيعوا أنفسهم، وأموالهم من الله، فالله يأتي ليشتري، وبالشكل الذي يوحي، وكأنها لم تحصل مساومة بل هم انطلقوا ليعرضوا أنفسهم، وأموالهم في سوق الله، ليحصلوا على ذلك الثمن العظيم [الجنة]، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهُمْ وَأموالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة: من الآية111) ماذا يريدون من أنفسهم وأموالهم عندما باعوها؟ هم يريدون الجنة.. باعوها منه ابتغاء رضاه فمنحهم رضاه، ومنحهم الجنة، وعندما باعوها باعوها بصدق، فانطلقوا ليقاتلوا في سبيل الله، وليس فقط بيع وعاد فيه خيار، لا، بل كان بيع صَرْم نافذاً يريدون الجنة، يريدون رضا الله، ففيما تَجَسُّد هذا البيع؟ تجسد في قتالهم في سبيل الله، ذلك الميدان الذي يتطلب بذل النفس والمال، فها هنا يكون البيع، وها هنا يكون الشراء من الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهُمْ وَأموالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: من الآية111) وعندما ينطلقون للقتال في سبيل الله لا يتصورون بأن مُجَـرّد البيع هو أن يحضروا ميدان المواجهة بل ينطلقون في خوض الصفوف في غَمَرَات الأهْوال يقاتلون، وليس فقط يتفرجون.
هؤلاء ينطلقون ليقاتلوا بجدية في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، هم باعوها من الله، لم يبيعوا مُجَـرّد تحَرّك وهْمِي لينتظروا هذا الطرف أَو هذا الطرف من الذي سيدفع أكثر لنـتحَرّك معه؟ لا.. ليحصلوا على أموال؛ لأَنَّهم قد خرجوا بشكلهم كمقاتلين، خرجوا بشكلهم، بآلتهم كمقاتلين هم يريدون من الذي سيشتري، من الذي سيدفع أكثر من الأموال من الذي سيعطي بنادق، من الذي سيعطي ذخيرة، من الذي سيعطي رتباً، من الذي سيعطي كذا ننطلق معه، هؤلاء ليسوا من هذا النوع، رأوا أن أنفسهم غالية، وفعلاً: ((إن نفوسكم غالية ليس لها ثمن إلَّا الجنة)) هكذا ورد حديث بهذا المعنى عن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أن النفوس عظيمة وغالية ليس لها ثمن إلَّا الجنة، ماذا يعني؟ أبذلها في سبيل أن تحصل على الجنة.
هؤلاء انطلقوا يقاتلون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فأمام إغراءات أعدائهم لا يفكرون أن يميلوا يميناً أَو شمالاً؛ لأَنَّهم لا يبحثون عن المال، هم من باعوا المال، وأمام إرهاب وتخويف أعدائهم أَيْـضاً ليسوا ممن يخاف الموت؛ لأَنَّهم من باعوا النفس أَيْـضاً، فماذا يصنع معك العدوّ أكثر من أن يُرغِّبْ أَو يُرهب، أكثر من أن يعد أَو يتوعد؟ فتصبح كُـلّ الوعود لا قيمة لها، وكل التَّوَعُّد أمامك لا قيمة له: {أَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، وعدٌ إلهي صدقوا به أَيْـضاً.
هكذا هو شأن أولياء الله الذين آمنوا، تصديق بثقة بأن لهم الجنة، ويؤكّـد الوعد: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالقرآن} (التوبة: من الآية111) أنني سأمنحهم الجنة فصدقوا وانطلقوا: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} (التوبة: من الآية111) من الذي يمنعه من أن يفي بعهده؟ ومن الذي يمكن أن يحول بينه وبين أن يفي بعهده؟، ومن هو ذلك الطرف الذي يملك ما يملك الله؟ حتى يمكن أن يكون مثله في الوفاء بعهده، من هو ذلك الطرف الذي يمكن أن يكون أوفى من الله بعهده؟ لا أحد غير الله تعالى، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} هذا ليس خسارة، بل هو بشارة {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
ولنأتِ لنتفكر في قوله تعالى في الآية الكريمة: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهُمْ وَأموالهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) ومن هنا يتضح وجود الصفقة التجارية التي تعقد بين الله وبين المؤمنين من عباده، فالمشتري هو (الله) سبحانه وتعالى والبضاعة (أموال وأنفس) والبائع (المؤمنون) والثمن (الجنة)، وبطبيعة الحال أن المشتري يلجأ لشراء ما لا يملكه إلَّا أن الله سبحانه وتعالى المالك لكل عالم الوجود، ويخضع له الوجود برمته لذا لا يحتاج إلى صفقة تجارية ليسترد ذلك، إلَّا أن في هذه الآية دليلاً واضحاً على أهميّة الدخول في تلك التجارة، وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأموالكُمْ وَأنفسكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ أن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
تجارة مع الله سبحانه وَتعالى خصص لها جنة عرضها السماوات والأرض تسودها السعادة الأبدية مقابل بضاعة متزلزلة يمكن أن تفنى في أية لحظة، (سواءٌ أكان على فراش المرض أَو ساحة القتال)، فالله سبحانه وتعالى قد وعد وهو الصادق وتعهد أمام عباده بأنه وعدٌ عليه حق لا شك فيه جزاء المجاهدين الجنة، جعل السعادة في جنة الخلد مقابل الجهاد في سبيله وبذل المال والنفس في سبيل إعلاء كلمته والحرص على عدم التقاعس والتخاذل، وقد كان الفوز بالنعيم المقيم والحياة السعيدة والدائمة هي للشهداء الذين نستحضر مواقفهم المشرفة وملاحمهم الخالدة التي سطروها في ميادين البطولة والكرامة والشرف، والتي ما يزال التاريخ يسجلها كي تروى للأجيال القادمة بكل فخر عن شهدائهم وعن ما قدموه من بذل وعطاء وصمود وإباء، وهَـا هو ذا التاريخ يخلد بطولات الشهداء، ليزين صفحاته بأمجادهم، وبما حوته من تعاليم وَقيم.

قد يعجبك ايضا