يدور جدل حول الزكاة بين اثنين، مادح راض وناقم شامت هذه الأيام، وفكرة الزكاة فكرة دينية، وهي ركن من أركان الدين الخمسة، والزكاة في الدلالة اللغوية تعني الزيادة والبركة والصلاح وصفوة الأشياء، أما دلالة الصدقة فتعني في المفهوم العام عند المسلمين العطية للمحتاج بوجه من وجوه التقرب إلى الله، ولذلك لم يذكر القرآن في سورة التوبة مصارف الصدقات بلفظ الزكاة بل جاء بلفظ الصدقات، ولغويا تعني القوة في الشيء قولا وعملا، وهي في مفهوم الفقهاء العطية يبتغي بها المرء المثوبة من الله، أما الزكاة فتعني الزيادة والنماء، وقد دار جدل حول المفهوم بين فقهاء المسلمين، ولعل السؤال الأبرز هو: لماذا حدد الله المصارف مقرونا بلفظ الصدقات ولم يقرنه بلفظ الزكاة ؟
هذا السؤال يثيره المستوى الحضاري الذي وصل اليه الإنسان اليوم، فالإسلام وفق الدال العام تجاوز مفردة التصدق بجزء من المال، بل أرسى مداميك وأسس الاقتصاد للدولة المسلمة العادلة التي تحقق العدالة الاجتماعية وفق المفهوم الحديث، وتحدث التوازن بين أفراد المجتمع، فالزكاة في الرؤية الإسلامية نظام اقتصادي متكامل وهو نظام دقيق مرتبط بالعقيدة، ولذلك ارتبط بالدولة منذ نشأتها، ووقف الفقهاء عند الكثير من تفاصيل هذا النظام، لكن الكثير من الآراء الفقهية كانت تربط بين الصدقة وبين الزكاة بتأويل بعض نصوص القرآن، وتستند إلى بعض المرويات، وفي ظني أن هذا الخلط أحدث فساداً كبيراً في مقاصد الله من التشريع، كما أن الدول التي قامت لم تول هذا النظام المزيد من الرعاية، ومن الجدل حتى يكون نظرية ذات بعد اجتماعي وثقافي، بل تعاملت مع الفكرة كمورد يتصرف فيه الحاكم كما يريد، ووفق هواه دون قيد أو شرط، كما نلحظ ذلك في الدولة الأموية، ومن بعدها الدولة العباسية، وهما الدولتان اللتان أسستا لهذا البعد عوامل انحرافه عن مقاصده، فكان الانهيار هو السمة الأبرز في عدم دوام الدولة المسلمة الناهضة والعادلة منذ انهيار بغداد على يد المغول إلى يومنا المشهود .
وبعد سقوط الدولة العثمانية وشيوع النظريات الاقتصادية الحديثة، وبعد أن تحركت المجتمعات، وثارت الأقطار على النظم القديمة والاستعمارية أصبحت الزكاة ترفا مرتبطا بالعقيدة، فهي تجبى كفريضة لكنها لا تشكل أساسا في النظم المالية للدول الإسلامية، ويتفاوت الاهتمام الرسمي بها بين دولة وأخرى في العالم الإسلامي، وغاب عن المفكرين المعاصرين من الذين شرعنوا نظم الدولة الحديثة منذ عصر النهضة الحديثة في عالمنا العربي إلى يومنا، فالغالب هو الانبهار بالغالب وثقافة الغالب، ولذلك ترك المفكر كل إرثه وذهب إلى تقليد الآخر المختلف معه في النظم وفي السياسات العامة، فكان أن تعثر الخطو، ولم نلحق بالأمم التي سبقتنا إلى الوصول إلى مستويات حضارية تشكل لنا حالة دهشة، في حين كنا نستطيع نحن تحقيق هذا الحال لو عدنا إلى فكرة الزكاة، وقمنا بتجديد تعريفها وتجديد أهدافها، فالزكاة في النظم التشريعية الإسلامية نظام متكامل بقانون محكم غير قابل للاجتهاد إلا في التفاصيل الصغيرة، وبما يتسق مع حركة المجتمعات ومستواها الحضاري، فالزكاة نظام إلهي متكامل يهدف إلى محاربة الفقر، والبطالة، ويكفل اليتيم، ويغني السائل والمحروم، ويعين ذوي الحاجات، ويعالج المشكلات الاقتصادية، وكل هذه العنوانين لو نلاحظ هي نفسها المشكلات الاقتصادية التي تعاني من تبعاتها الدول النامية، ولو فكر المسلمون في تطبيق النظام الإلهي في الزكاة وفق مقتضيات الشرع ومقاصد الله في الحق والعدل لحققوا نهضة اقتصادية شاملة .
فالزكاة وفق الدلالة اللغوية ومفهوم الفقهاء تعني النماء والزيادة والصلاح، ولنا أن نقف عند حدود الدلالة، ونفكر في كيفية النمو، وكيفية الزيادة، وكيفية الصلاح، فقد يقودنا التفكير إلى عوالم جهلناها ونحن أقرب اليها، ولنا أن نخرج من ظلال فكرة أن الزكاة مجرد إحسان بدفع مبلغ من المال، إلى فكرة أن الزكاة تنظيم اقتصادي واجتماعي لازم للأمة، وهو ركن من أركان الإسلام، وإذا ما أعدنا تعريف الأركان وفق المفاهيم المعاصرة، فالشهادتان هوية ثقافية ( آيديولوجيا )، والصلاة حركة تنظيمية معنوية تحدث توازنا بين المادي والروحي، والزكاة تنظيم اقتصادي متكامل للحياة، والصوم ترشيد في الإنفاق، والحج علاقات خارجية غايته الشعور بالمساواة والتواصل والاستفادة من التجارب، فالأركان التي نكاد نحبسها في مفاهيم جامدة تحدث فينا هزات عميقة إذا أعدنا تعريفها وفق المدلول المعاصر للأشياء، فالإسلام ليس مفاهيم جامدة بل متحركة وبما يحقق مقاصد الله في الخيرية والعدل والحق .
فالنظرية الاقتصادية الإسلامية إذا لم تنبثق من ركن الزكاة وتشع من خلاله فهي تيه وضياع، ولذلك فالعودة إلى تعريف النظرية الاقتصادية الإسلامية أصبحت ضرورة حتى نتمكن من معالجة مشكالنا الاقتصادية والاجتماعية، وهي مشاكل كلها تدور حول الفقر والبطالة والتكافل الاجتماعي، وتحقيق الحاجات البيولوجية للإنسان، وقد وجدناها مجملة في الأمن من الخوف، والأمن من الجوع، ودلالة العبارتين واسعة وفق فقه الحقوق والواجبات المعاصر وهي كذلك في مفهومنا الإسلامي .
الكثير من النظم التي وصل إليها الإنسان وكانت مظهرا من مظاهر المدنية والحقوق في المستوى الحضاري المعاصر، أخذت حقها من التفكير والتشريع في مسارنا الفكري، لكن حدث في عصر النهضة أن تغلبت ثقافة المستعمر، ووقع المثقف والمفكر الطلائعي تحت تأثير الدهشة الحضارية، وتأثر من خلال النسج على منوال النظم الحديدة، فمصر أخذت من فرنسا نظمها ونحن نسجنا على منوال مصر في اليمن وهكذا دوليك تعطلت القدرات والأفكار، وعوامل الابتكار في صناعة حيوات جديدة، تستمد أسسها وأفكارها من النظم والتشريعات القديمة لتبدع زمنا حضاريا جديدا بالبناء على المرتكزات الأساسية .
إثارة سؤال الزكاة اليوم أصبح من الضرورة بمكان حتى نخرج من دائرة التيه والترف إلى دائرة الصناعة والابتكار في معالجة الأزمات الاقتصادية التي تطحن مجتمعاتنا .
Next Post