ما أحوجنا عبر مسيرة حياتنا لهذه اللغة الحُلم ، لغة التواضع ومحاولة المواءمة المستمرّة بين الحاجة وحب الآخر ، لأن هذا الحب المزدوج المتداخل المتحاور هو سر بقائنا أحياءً، حياة سوية إن لم تكن سعيدة فإنها أقرب إلى السعادة ، الأشقياء هم من يزرعون البغضاء بسلوكهم وممارستهم لغة الهمجية والعنجهية والغرور وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة والحق المقدس باسم الدين أو باسم السياسة ، جميع الدعاوى الشمولية دعاوى باطلة في الفكر والثقافة وفي السياسة ومختلف جوانب الحياة المليئة بكل شيء ، والأعمى أي فاقد البصيرة هو الذي لا يرى كل هذا الامتلاء ، فهو عاجز حقيقة عن رؤية الأهمية الكبرى في البحث عن أقرب السبل لإيجاد لغة مشتركة يعيش بها ومن أجلها هذه الحياة القصيرة الطويلة الصغيرة الكبيرة الخيرة الشريرة ، الجميلة القبيحة إلى آخر المتناقضات المتوافقات المتنافرات ، نعم أبرز مظاهر عجز الإنسان عجزه عن رؤية الألوان وأهميتها في تكوين الصورة واكتمالها ، جمالها وبهجتها وعلاقتها ببهجة النفس ومكنوناتها جمالاً وقبحاً.
من البديهي القول بأن جمال الصورة من جمال المصور وقبحها من قبحه ومع ذلك هناك دائماً من تغيب عنه البديهيات أو بعضها، الإنسان الحقيقي وحده هو من لا يحبس البهجة والحاجة المستمرّة للاندهاش ويدرك أهمية هذه البديهية وجمال فعلها في النفس وتفاعلها مع الحياة التي تريد منا أن نعيش أحياءً وأن نرفض عيش القبور وعبادة الأصنام.
ولهذا نرى الإنسان الحي يشع دوماَ بهجة وسروراً ويشرق حباً وسعادة كلما هطل المطر ورأى قوس قزح يعقب ظهور شمس ما بعد المطر ويختفي سريعاً في الجهة المقابلة للشمس ويفرح لرؤية الطفل يناغي مع انبلاج الفجر، كما نرى آخر لا يلقي بالاً لما حوله بقدر ما يرى نفسه تسيطر عليها وحشية ثقافة القطيع و (من ليس معنا فهو ضدنا) يستوي في ذلك عبدة الأحزاب القبور مع كهنة وأتباع المذاهب المتكلسة.
لسنا من دعاة ترك الأنا لأن المناداة بتركها مناداة في غير محلها، والمطلوب التفرقة بين الأنانية السلبية التي تفقد الإنسان وعيه بإنسانيته وبين حب الإنسان الطبيعي لذاته، ومعلوم أن رأس الكذب ادعاء الإنسان بأنه لا يحب نفسه بل لا نبالغ إذا قلنا بأن أكثر الناس حباً للناس هم من يمتلكون القدرة على معرفة كيف يحبون أنفسهم، لأن من لا يحب نفسه أن يحب غيره وأنّى له؟؟!؛
الناكر لذاته إنما يفعل ذلك في الحقيقة لفرط حبه لنفسه؛
نعم ما أحوجنا إلى لغة الشراكة الحقيقية كي ندرك أن فقدان هذه اللغة هي سبب فقدان الثقة الحقيقية بالنفس وهي كذلك سبب كل هذا الدمار الذي نلحقه بأنفسنا من خلال كل هذا الاستهتار بوطننا والتهاون مع من ينتهكون سيادته وكرامته التي هي في حقيقتها جزء أصيل من كرامة وسيادة الإنسان وحريته التي لا تقبل المساومة ولا يجب والحرية توأم العدالة والمدخل لتحقيقهما هو الحرص التام على أن يكون مبدأ سيادة القانون هو معيار المواطنة في الدولة العادلة الحديثة المقتدرة القابلة للبقاء ، وما هذا التعصب الأعمى لانتماءاتنا السياسية والدينية والمذهبية سوى تعبير عن ظلام دامس في النفوس واستعداد متهور لظلم الآخرين رغم ما عاناه البعض من ظلم الآخرين لهم.
إن هذا التموضع والجموح في ادعاء القدرة على نفي أهمية وجود الآخر ، أقصد الآخر الطبيعي الذي لا يستقوي بالأجنبي أيا كان هذا الأجنبي على أخيه الآخر الذي يرفض نظرية كون (السياسة تبيح له الاستعانة بالشيطان لتحقيق ما يرى أن له فيه مصلحة أو حتى حق فالوصول إلى الحق عبر وسائل باطلة حتما بااااطل لأن من أوجب واجبات الإنسان وهو يؤدي رسالته في الحياة أن يميز بين المصلحة المشروعة وغير المشروعة ، بين الحق والباطل ، هذه الثنائية تتجلى صورتها جذرياً وبنيوياً في صورة الأنا المريضة العاجزة عن معرفة الأهمية الكبرى للغة الشراكة وبين الأنا المثالية التي تعرف أهمية التعايش بين الأنا والآخر وبهذا التعايش يحيا الإنسان السوي معافىً في بدنه آمنا في سربه وبه تقوم الأوطان وتحيا حرةً كريمة قوية ، بالتعدد الحي يسمو الوطن ويزدهر وليس بالوحدة أو الموت. (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)
(قل للذي يدعي في العلم فلسفةً * حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ).
كل درب للعلى نجتازه * همة الأحرار تجليها العقول