في الأسبوع الماضي نشر الأخ الدكتور أشرف الكبسي في صفحته على الفيس بوك منشورا تساءل فيه حول ما يهم المتابعين من (مشاريع معمارية ليتم إدراجها كما قال ضمن قوائم أبحاث ومشاريع تخرُّج أقسام الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني والتصميم الحضري بالجامعات) وهذا موضوع جدير بالاهتمام وأسلوب متميز في الانتقال بالتعليم الجامعي إلى التواصل المجتمعي كون التعليم الجامعي مرحلة تستوجب نزول الجامعة إلى المجتمع لتلمس همومه وطموحاته واكتشاف المواهب والقدرات لدعمها والاستفادة منها في بناء المستقبل وربط مشكلات الحياة العملية بالنظريات العلمية ، من هذا المنطلق أود أن أسهم كمواطن غير متخصص في الهندسة المعمارية وتخطيط المدن بما يلي:
كلما طُرح موضوع متصل ولو بنسبة ضئيلة بالتخطيط الحضري يقفز إلى ذهني قلق وجودي ناتج عن هذه العشوائية التي تنهش وجه مدينتي صنعاء وكل مدن اليمن منذ زمن، ورغم أنه كلما زادت النداءات والشجب والاستنكار والتنديد المحلية والعالمية زادت العشوائية ليتبين أنها ليست حالات فردية يقوم بها عابث أو متسلل في الليل أو حتى عصابة أراض تكونت خلسة يمكن ضبطها والتعامل معها لكنها سياسة ومنهج محروس يحكمه مبدأ :(دعوها فإنها مأمورة)، صحيح أن هذا ما درج عليه النظام (السابق) كما يحلو للنظام الحالي ترديده بعد اندماجه معه وورث كل أوزاره فاستحق اسم النظام (الساحق)، هذه الحال أوصلت القيمة الجمالية المعمارية بل كل تفاصيل حياتنا إلى حالة الخطر المحقق فالأرض هي الصفحة التي نرسم عليها أحلامنا المعمارية بكل عناصرها ومكوناتها من الداخل والخارج وهي أهم عناصر التخطيط الحضري للمدن لأن المدينة بيت ساكنيها وتفرعات التخطيط تعكس ثقافة المجتمع وعمق حضارته وتصوره للحياة وعنوان كل ذلك ما نكنه للأرض من مكانة وتحاشي قضم الأراضي الزراعية التي لا تعوضها أي وظيفة أخرى لأن الأرض هي المبتدأ والخبر والفعل والفاعل معاً، هذه المكانة تعبر عنها ملامح المدينة حين تصبح لوحة فنية تبعث السعادة تعويضاً عن المساحات الزراعية التي قد نستهلكها مضطرين وأقول مضطرين على افتراض أن القائمين على التخطيط الحضري يضعون كل أرض زراعية وجمال الفضاء الطبيعي في حدقات العيون صيانة واحتراماً ووعياً بأهميتها، والمعمار له وظيفة مركبة ترتكز على احترام الذائقة الفنية لفن العمارة أولا ومبتدأ كل ذلك هو الأرض والمدينة هي الخبر، وأرض المدينة كأرض البيت وإن تعددت وحداته لأن التعدد في كل شيء لا ينفي الوحدة بل يؤكدها ومجموع الوحدات السكنية التي تقام على هذه الأرض الواحدة هو وجه المدينة وروحها لا بد أن يكون معبراً عن قيمة جمالية ينسجم فيها أعضاء الجسد الواحد كي لا يتداعى ولا يكف عن إرسال رسائل البهجة لكل من يراه أو يعيش في أحضانه.
نعم: ما يشغل قلبي وذهني هو استمرار كل هذا الكم من العشوائية القاتلة التي تلتهم المساحات الخضراء بصورة تشوه المدن وتقضي على البعد العبقري الإنساني اليمني الذي اعتمد عليه مؤسسو المدن والقرى اليمنية التي تأسست جميعها أو فلنقل معظمها على الروابي وسفوح الجبال التي لا تصلح للزراعة محافظة على الصالح منها بالفعل وليس بالشعارات والخيال وبالعرف الذي أعطوه قوة القانون.
لقد حافظ اليمني القديم بهذا الاختيار العبقري الفطري أي قبل أن تنشأ وتتطور الدراسات العلمية والبحثية على القيعان وكل أرض زراعية لتبقى مصدرا للرزق والحياة وهو ما أبقى اليمن حرة مكتفية ذاتيا إلى حد كبير والدعوة للاكتفاء ليس دعوة للانعزال فلم يعد للعزلة مجال وإنما دعوة لتمسك اليمنيين بحريتهم ولا حرية لمن لا ينتج ويقدم للبشرية ما يمكنه من التكامل مع العالم والبقاء في موضع الاحترام.
إن هذه الممارسات العشوائية المستمرة بعنف ووقاحة تؤدي إذا ما استمرت إلى القضاء على كل المساحات الزراعية الخصبة وهيمنة التمدد المعماري السرطاني البشع يفقد الأرض اليمنية خصائصها ويقضي على كل متنفس ، وعلى سبيل المثال ليس من المقبول قيام مسلحين ليلاً بتسوير مساحات صغيرة مخصصة مواقف لسكان مدينة موظفي البنك شيراتون التي بنيت في عهد الشهيد الحمدي بحجة أنها أراضي وقف فهذا تصرف غريب أثق بأن قيادة الأوقاف لا تقبله لأن هناك أولويات في حماية أراضي الأوقاف والحفاظ عليها كما أن هيئة أراضي وعقارات الدولة وهيئة الأوقاف إلى جانب وزارة الأشغال والبلديات وكل المجالس المحلية والجهات ذات العلاقة في أمانة العاصمة وهيئة المحافظة على المدن التاريخية ليست بعيدة عن همِّ المحافظة على معالم المدن التي تتسع ببشاعة كالسرطانات رغم أنها من أحدث المدن في العالم أما مدينة صنعاء القديمة فلها حكاية أخرى لأنها جوهرة معمارية تتعرض لأقسى أنواع الاعتداءات رغم نداءات كل من رآها من المهندسين المعماريين العالميين والشعراء والأدباء الذين زاروها خلال العقود الماضية معبرين عن أسفهم لظاهرة العشوائية التي نمت مع نمو الفساد وزاد نموا في ظل الأحلام الثورية المتتالية التي أورثتنا الويل، ومن المؤسف أن العشوائيين وتجار الأراضي أو بالأصح عصابات الأراضي قد وجدوا في العدوان والحرب ضالتهم لتستمر عملية نهش مدن اليمن وتراثها المعماري والأثري بفعل العدوان والفساد الممنهجين .
للجَمال أوردة تصنع المستحيل
تمد قناديلها للقلوب
باكرا تستفيق الحكايات
يمضي الصباح على صهوة الحلم
إلى حيث ترسو سفنه
في فجرنا المنتظر.