الزَّيْديّ

عُبَاد بن علي الهَيّال

 

 

ذات يوم دراسي في آخر المرحلة الثانوية خرجت مع زميل لي من مدرستنا (عمرالمختار) في صنعاء لنصلي الظهر في المسجد القريب، وحين دخلنا “بنيّة ” المسجد لفت نظرنا جماعة من الشباب متحلقين، كانت أصواتهم تعلو فدنونا منهم فوجدنا وسط الحلقة فتى يجلس القرفصاء، كانوا يريدون ضربه بزعم أنه نال من أحد الصحابة، غير أن الفتى لم يكن مبالياً بهم فتدخلنا وصرفناهم عنه.
عرفت من زميلي- وكان ينتمي لحزب الإصلاح(الإخوان المسلمين)- أن هذا الفتى وأباه كثيراً ما يدخلان في خصومات مع الوهابية (والإخوان) في المسجد الذي يهيمنون عليه(١)، لكن الفتى وأباه وقلة معهم كانوا لا يفترون عن مجابهتهم.
قال لي زميلي إن والد هذا الفتى عالم زيدي وإن له كتابات فسألته عن اسمه فقال :عبدالسلام الوجيه.
صرت منذ ذلك اليوم أتخبر زميلي عن الوجيه، ثم سألت عنه بعض أصحابنا في الجامع الكبير ومنها عرفته.
حين قامت الوحدة اليمنية وسُمِحَ للعمل الحزبي العلني، تأسس حزب (الحقّ) وصدرت صحيفة (الأُمّة) عرف الناس عبدالسلام الوجيه كاتباً كبيراً وساخراً لاذعاً له مقالات ومقامات يصوغها نثراً مسجوعاً و”يتبّلها”  بأبيات من شعره، كنا ننتظر مقالاته بشوق كبير وكان له من الشجاعة والبلاغة ما مكنه من كشف حزب (الإصلاح) ورموزه كما هم لا كما كانوا يصورون أنفسهم حين كانوا يحيطونها بهالة من القداسة، وكانت لهم سطوة في اليمن وسيطرة على الساحة الدينية فيه، فجاء الوجيه فأنزلهم منزلتهم التي يستحقونها والتي رأيناها فيما بعد حين رأيناهم يصطفون إلى جانب الغزاة من أعراب ويهود ونصارى في وجه اليمانين.
ثم… عرفتُ الوجيهَ مُدَرّساً في الجامع الكبير بصنعاء حين كانت تقام فيها الدورات الصيفية بعد أن أتاحت الوحدة اليمنية متنفساً لأبناء الزيدية لتدريس كتبهم لكن سرعان ما خُنِقَ هذا المتنفس.
وعلى ذكر كتب الزيدية، أذكر أن ثمة دار نشر كانت رائدة في نشر كتب أهل البيت الزيديّة، كان اسمها “دار التراث اليمني”  (إن لم تَخُنّي الذاكرة) ،وقد أصدرت كتيبات من التراث الزيدي كان لها فضل في زيادة وعينا بفكر   أهل البيت، وقد عرفت – فيما بعد بسنوات طويلة-  أن وراء هاتيك الدار جهداً منظماً لعبدالسلام الوجيه ولصنوه عبدالله هاشم السياني (وربما محمد المقالح).
على أن أبرز جهود الوجيه في سبيل إحياء تراث   أهل البيت كان في “مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية”  وقد أخرجت كثيراً من الكتب المحققة، وكانت موسوعة   الوجيه “أعلام المؤلفين الزيديّة”  عملاً له مدلوله وأثره عند أهل البيت وشيعتهم في اليمن.
كان عملاً أعاد لنا الثقة بأنفسنا وبفكرنا وكنا يومئذ في زمن استضعاف.
كنت ألقى الوجيه في معرض الكتاب السنوي في صنعاء ،وعنه كان يحدثني السيد العلامة علي بن احمد الشامي وكانت بينهما صحبة وعقيدة -رحمهما الله-
… ولما شن الظالمون في صنعاء حربهم على صعدة استطاعوا استغفال بعض العلماء والمثقفين لكننا لم نرَ   الوجيه بين أولئك قط!  ليس هذا وحسب بل إنه – سلام الله عليه-  لم يقف مكتوف اليدين إذ كانت له مواقف في مناهضة الظالمين ونصرة المستضعفين بقيت سراً إلا على قلة قليلة منها كاتب هذه السطور.
… ثم لما قام العدوان على اليمن رأينا الوجيه في المكان الذي اعتدنا أن نراه فيه، عالماً مجاهداً ثائراً وكان محركاً لأنشطة   “رابطة علماء اليمن”  التي أقامت مؤتمرات للعلماء من داخل اليمن وخارجه تتناول قضايا الأمة لا اليمن وحده، وكثيراً ما شرفني بالدعوة إلى مؤتمراتها الناجحة.
كنت أختلف إلى الوجيه في مقره في “الرابطة”  حيث كنا نتناول القات وكنت أجده وحده في أول الوقت أو آخره فيطيب لي معه الحديث في أمور كنت أتساءل عنها وكنت أجد عنده أجوبة صادقة صريحة.
وحين اشتدت وطأة المرض عليه زرته في المستشفى ثم زرته في بيته وكان معي السيد العلامة علي إبراهيم المهدي فدخل علينا المكان متدثراً بدثار وكان يرتجف كأنه في أيام الشتاء فشعرنا بالحرج وأردنا الانصراف فأبى إلا أن نجلس!
كنت أهاتفه بين الفينة والأخرى أستخبره عن حاله فكان يطمئنني، وذات مرة هاتفته فأسرّ لي بأمر قال إني فيه ثالث ثلاثة، كان يريد السفر للعلاج خارج اليمن على متن طائرة من طائرات الأمم المتحدة وكان لا بد لها من أن تتوقف في مطار عدن وكان يخشى غدر المعتدين والمرتزقة أن يأسروه في المطار فأشرت عليه أن يسافر متوكلاً على الله إن كان يعلم انه سيلزم مقعده في الطائرة وأنه لن يضطر للنزول عنها في المطار، أما إن كان سيضطر لذلك فلا يسافرنّ البتة، فبدا لي وكأنه استحسن رأيي لكني بعد ذلك هاتفته فأعلمني أن القيادة الثورية نصحته بصرف النظر عن السفر خشية غدر المرتزقة. كان آخر اتصال بيننا في ذكرى يوم الصرخة، كانت قناة المسيرة تجري لقاء مباشراً معي وكان الوجيه طريح فراش المرض، وكان هاتفي في غرفة بجانب الاستوديو لدى صاحبي، ولما خرجت هاتفته فأثنى على ما قلته وكان قد قال لي غير مرة إن طرحي في المقابلات يعجبه، فكنت أشعر بالرضا لأن الوجيه ليس من أولئك الذين يقولون آراءهم مداهنة ولأن لرأي الوجيه وجاهته!
عاش الوجيه ثائراً صادقاً يلتزم جانب المستضعفين أيام دولة الظالمين،
وعاش الوجيه مجاهداً صادقاً ملتزماً جانب المستضعفين أيام دولة أهل الحق،
كان زيدياً .. حقا!
(١)من عجيب أحوالهم في ذلك المسجد أني صليت مرة فيه صلاة الظهر وما إن سلمنا حتى قام شاب واتجه إلى المحراب وتناول مكبر الصوت فظننته سيلقي موعظة فإذا به يرفع جهاز تسجيل صغير في يده ويضغط زر التشغيل لينطلق صراخ أحد وعاظ الوهابية   !
ظل الشاب ممسكاً بالمسجل والمصلون فاغرو الأفواه، قمت فصليت ركعتي السنة وخرجت من المسجد وواعظ الوهابية ما زال يعظ!

قد يعجبك ايضا