ـ ما من قائم يقوم في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية داعيا إلى ترك ضلالة من الضلالات أو بدعة من البدع إلا وقد آذن نفسه بحرب لا تخمد نارها ولا يخبو أوارها حتى تهلك أو يهلك دونها .. والدعاة أحوج الناس إلى عزائم ثابتة وقلوب صابرة على احتمال المصائب والمحن التي يلاقونها في سبيل الدعوة حتى يبلغوا الغاية التي يريدونها أو يموتون في طريقها. الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة أو جهلة أو زنادقة أو ملحدين أو ضالين أو كافرين لأن ذلك من مثالب الطريق.. الدعاة الصادقون يعلمون أن محمدا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أتهöم من قبل أعدائه بالسحر وأن الإمام الغزالي أتهöم بالكفر والإلحاد ومات حجة الإسلام وأن ابن رشد عاش ذليلا مهانا حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه ومات فيلسوف الشرق. فهل تحبون أن يكونوا أمثال هؤلاء العظماء أحياء وأمواتا. سيقول كثير من الناس وما يغني الداعي دعاؤه في أمة لا تحسن به ظنا ولا تسمع له قولا إنه يضر نفسه من حيث لا ينفع أمته فيكون أجهل الناس و أحمقهم هذا ما يوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين وهذا هو الداء الذي ألم بنفوس كثير من العلماء فأمسك ألسنتهم عن قول الحق وحبس نفوسهم عن الانطلاق في سبيل الهداية والإرشاد فأصبحوا لا عمل لهم إلا أن يكرروا للناس ما يعلمون ويعيدوا عليهم ما يحفظون فجمدت الأذهان وتبلدت المدارك وأصبحت العقول في سجن مظلم لا تطلع عليه الشمس ولا ينفذ إليه الهواء. لا يستطيع الباطل أن يصرع الحق في ميدانه لأن الحق وجود والباطل عدم إنما يصرعه جهل العلماء بقوته ويأسهم من غلبته وإغفالهم النداء به والدعاء إليه.
رأيت الدعاة في هذه الأمة أربعة :
1ــ رجل يعرف الحق ويكتمه عجزا وجبنا فهو ساكت طول حياته لا ينطق بخير ولا شر.
2ــ ورجل يعرف الحق وينطق به ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها وكان خيرا له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر الذي يضع الدواء المر في “وصفة” ليسهل تناوله.
3ــ ورجل لا يعرف حقا ولا باطلا فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في بيدائها فيدعو إلى الخير والشر والحق والباطل والضار والنافع في موقف واحد وكأنه جواد امرئ القيس الذي يقول فيه ” مكر مفر مقبل مدبر معا “.
4ــ ورجل يعرف الحق ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة المجد المجتهد وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة لأنه صاحب هوى يرى أنه لا يبلغ غايته منه إلا إذا أهلت الأمة في سبيله فهو عدوها في ثياب صديقها لأنه يوردها موارد التلف والهلاك باسم الهداية والإرشاد فليت شعري من أي واحد من هؤلاء الأربعة تستفيد الأمة رشدها وهداها ¿
ما أعظم شقاء هذه الأمة وأشد بلائها فقد أصبح دعاتها في حاجة إلى دعاة ينيرون لهم طريق الدعوة ويعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها .. فليت شعري متى يتعلمون ثم يرشدون¿
” الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي ـ رحمه الله ـ النظرات ج2 وبتصرف “
*مستشار وزارة الأوقاف والإرشاد.
Prev Post
Next Post
قد يعجبك ايضا