استعانة الخطاطين المجددين بالحاسوب لا تنتقص من أعمالهم بل زادت إنتاجهم الخطي حُسناً وتنوعاً ووفرة وجمالاً

الخطاط إسماعيل مفتاح: الخط العربي هو جزء من الهوية العربية التي لا يمكن إغفالها ضمن التراث الإنساني

المنمنمات الإسلامية هي عبارة عن رسوم توضيحية مصغرة تصوِّر شيئاً ما بطريقة فنية رائعة
الناي يشبه الخط؛ سحر الأول نغمة آتية من الأزل، ولمسة الثاني كتابة سحيقة في القدم

من منا لم يستهوه الخط العربي ولم تعجبه قطعة مخطوطة لحكمة أو آية قرآنية كريمة أو كلمة لأحد المشاهير، والآن مع الحداثة ودخول الكمبيوتر إلى عالم الخط، هل هددت الخطوط المخزونة في الحاسوب فن الخط العربي؟ وما هو مستقبل هذا الخط في ظل تطور الحاسوب الذي تولى مهمة الخط والتصميم؟ وما هو دور الخط العربي في حفظ اللغة العربية وإظهار الثقافة العربية والإسلامية بالمظهر اللائق؟ هذه التساؤلات وغيرها طرحناها على الخطاط إسماعيل مفتاح الذي أجاب عليها بكل أريحية، فإلى التفاصيل:
اعدها اليوم/ هاشم السريحي

ماذا عن بداياتك مع الخط وبمن تأثرت من الخطاطين؟
كانت بداياتي في الخط من باب التجربة وإرضاء النفس بالدخول إلى معترك جديد بعدما تمكنت من فن الرسم دراسة شخصية ومهارية فوجدت نفسي أمام علم مؤصل وعريق، ففوجئت بالمعلومات الهائلة والدقيقة بالرغم من بساطة الأدوات، فكانت بداية الطريق بالنسبة لي، فالتقيت بمعلمي الخطاط كمال الجميلي من دولة العراق الشقيقة ومعلمي الخطاط عبدالرقيب العودري الذي تأثرت بأسلوبه وطريقة كتابته وبالمدرسة التركية في الكتابة وأذكر الخطاط محمد شوقي والحافظ عثمان اللذين أدرس أسلوب كتابتهما بالثلث والنسخ.

ماهي قراءتك لواقع ومستقبل الخط العربي خاصة بعد تولي الحاسوب مهمة تنفيذ أبرع أنواع الخطوط؟
بالنسبة لقراءتي لواقع الخط العربي ودخول الحاسوب سألخصه بهذا التشبيه البسيط؛ لم تتمكن إلى غاية اليوم أي آلة موسيقية عصرية من تجاوز وتعويض الناي التقليدي الذي استمر لمئات السنين، والناي يشبه الخط: سحر الأول نغمة آتية من الأزل، ولمسة الثاني كتابة سحيقة في القدم، وليس صدفة ربما أن القصب كان موطنهما المشترك، فأنَّى لآلة جديدة أخرى مثل الحاسوب -بعد المطبعة- أن تعوِّض مكانة القلم (القصبة)، وأن تقتل الخطاط وأن تنهي فنّاً دام لقرون وازدهر وتألق على الورق والجدران والنحاس والقماش والزليج والخشب والعمارة، لا خوف إذن على فن الخط العربي من الحاسوب، مثلما أنه لا خوف على الناي من آلات الطرب الإلكترونية الجديدة، فهو لا يهدد الخطاط بالموت وفن الخط بالانقراض.

أصبح الآن بالإمكان رسم الخطوط بالحاسوب، كما أصبح بالإمكان إنشاء لوحة تركيبة بهذه الحروف المرسومة؛ لينتج لوحة خطية تقارب ما ينتجه الخطاط.. ما رأيك بهذه الخطوات، وما حدود استخدام ذلك؟
على الرغم من أن الحاسوب لم يبدِ حتى الآن قدرة على احتواء الخط العربي بكل ثرائه وغناه، إلا أن العكس يبدو صحيحاً، إذ يبدو أن تقنيات الحوسبة ومتطلباتها ستشكل دافعاً ملهماً لإثراء الخط العربي، لكن من يستخدمه على دراية تامة بها.
وليس سراً أن عدداً لا بأس به من الخطاطين المجددين المهرة يستعينون اليوم بالحاسوب لتنفيذ تصاميمهم وتكويناتهم الخطية وإنجاز قوالب لها وإضافة مؤثرات إليها، وأحيانا لرسم خطاطاتهم الأولية، وهذا لا ينتقص شيئاً من قيمة عملهم ومكانتهم ولم يبتلهم بالكسل، بل زاد إنتاجهم الخطي حُسناً وتنوعاً ووفرة وجمالاً، ولا مجال هنا للتوقف عند أسماء لامعة في مجال فن الخط اعترفوا بكل أريحية بأنهم يستفيدون في إنجاز أعمالهم من الإمكانات الهائلة والواعدة التي يمنحها لهم الحاسوب في هذا الصدد.. إن ما يعيب حقاً العمل الخطي هو تقديمه على أنه أنجز إنجازاً كاملاً باليد، في حين أن صياغته تمت حاسوبياً من أوله إلى آخره، وقد ثبت هذا أحيانا أثناء دراسة بعض الأعمال الخطية التي قدمت في مسابقات مشهورة.
إن أدوات الخط الأساسية منذ قرون هي القلم (أو القصبة والحبر) والورق كما نعرف، لكنها اليوم تشهد تحدياً ومنافسة من التقنيات الحاسوبية الرقمية الحديثة، فلا مناص إذن من أن يجدد الخطاط إبداعه وأن يطوّر أسلوب عمله إذا أراد لفنه أن يرتقي، ولدوره أن يتألق، ولمكانته أن تستمر، فالتجديد والتطوير في فن الخط العربي ليسا خياراً ولم يعودا اختيارياً، وإنما باتا ضرورة لا مندوحة عنها لكي يستمر هذا الفن الراقي العتيق.

هل تجد أن الخط العربي ساهم في الحفاظ على اللغة وقدَّمها للعالم بصورة أجمل؟
بكل تأكيد أسهم الخط قديماً وحديثاً في حفظ اللغة العربية وإظهار الثقافة العربية والإسلامية بالمظهر اللائق، وأذكر المشككين في الثقافة العربية والخطية على وجه الخصوص والذين يشعرون بالانسحاق أمام الثقافة الغربية، وهم يعتقدون أن التمسك بالخط العربي هو أحد مظاهر الرجعية، ويرون أن التخلي عن الخط العربي وعن اللغة العربية هما من أسباب اللحاق بالتطور الغربي وبالحضارة الحديثة والثقافة العالمية، ونسي هؤلاء أن الصينيين واليابانيين وغيرهم لم يحققوا ما هم فيه الآن إلا بتمسكهم بتراثهم الفني وبقيمهم الجمالية، كما أنهم يقيمون المعارض المتتالية للخط وللثقافة ولا ينظرون للخط كمجرد حلقة في سلسلة ثقافتهم الخاصة، بل كجزء من الثقافة الإنسانية بشكل عام، وهو نفس ما أعتقده أنا أن الخط العربي هو جزء من الهوية العربية التي لا يمكن إغفالها ضمن التراث الإنساني العام أيضاً.

نشهد اليوم إقامة معارض للخط العربي في كثير من البلدان العربية والإسلامية وبعض الدول الأوروبية، ما أهمية إقامة مثل هذه المعارض ولاسيما في الدول العربية؟ ماذا تمثل هذه المعارض، هل نقول إن الخط العربي لا زال بخير وأنه في تقدم.. ما وجهة نظرك من ذلك؟
إقامة المعارض الخطية أسهمت كثيراً في انتشار الخط العربي وانتشار الثقافة العربية الإسلامية المتزنة والراقية التي تمثل الجانب المشرق للحضارة الإسلامية بعيداً عما تم تصديره عن الحضارة العربية والإسلامية أنها بلد الرقص والغناء …إلخ.
وكلما كان الاهتمام وتوجه الدولة لعمل المعارض الخطية والورش التدريبية والاستضافات لأهل الاختصاص للحضور وإقامة الندوات التثقيفية في الإعلام كان النتاج الازدهار الثقافي وتعميق الهوية.

بما أننا في حديث عن الخط العربي، ذكرت في سياق كلامك عن فنون إسلامية أخرى.. هل لديكم مجال آخر غير الخط العربي متعلق بالفنون الإسلامية؟
نعم، إنه مجال المنمنمات الإسلامية، وهو عبارة عن رسوم توضيحية مصغرة تصور شيء ما بطريقة فنية رائعة، وأطلق عليه اسم المنمنمات لأنه يشير إلى الشيء الذي يحتوي على زركشة أو به زخرفة من نوع ما، يقصد بالنمنمة هو تصوير الأشياء بصورة دقيقة جداً، فيلتقط أدق وأصغر التفاصيل التي قد لا يلاحظها أحد، تستهدف تلك الرسومات أو فن المنمنمات الإسلامية إضفاء نوع من التزيين، والمظهر الجمالي على المخطوطات الثمينة، أو الصفحات ذات القيمة العالية، يعتمد فن المنمنمات الإسلامية على استخدام الكثير من الألوان الزاهية، بالإضافة إلى الذهب التي تزيد من روعة المخطوطات والأوراق الهامة، فهذا الفن يختص في الأساس بتصوير الفن الإسلامي، وكانت تشتهر به بيزنطة وبلاد فارس والإمبراطورية العثمانية والهند وغيرها.

لماذا اخترت هذا الفن إلى جانب فن الخط العربي؟
بحكم بداياتي في الرسم ومن ثم الخط العربي وحضوري ورشة تدريبية لفن المنمنمات على يد البعثة الفنية الجزائرية، لاحظت أن اليمن وثقافتها مليئة بمواضيع لا حصر لها وأنه لا يوجد فنانون يمنيون دخلوا هذا المجال، فأحببت أن أتعلم هذا الفن وأوصل تراثنا العريق للعالم، والحمد لله على منِّه وفضله استطعت مزاحمة الكبار في هذا الفن ووصلت لوحاتي لأرقى مسابقات المنمنمات وحصلت على جوائز، كان آخرها في مسابقة Gelecegin Ustalarl 2021 في تركيا، وأنا العربي الوحيد الفائز خلال ثمان دورات للمسابقة الدولية للمنمنمات.

ما هي اللوحة التي تحب؟
ما يجذبني في اللوحات الخطية هو لوحة الحلية الشريفة التي تحكي لنا وصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ما هي مشاركاتك؟
شاركت في عدد من الفعاليات الداخلية ودورات تعريفية للخط العربي، أبرزها في المركز الثقافي الفرنسي والسفارة الفرنسية ومعرض تعريفي للخط العربي بحضور سفراء الدول العشر 2014م في جامعة صنعاء والمشاركة في معرض الفنون الإسلامية – منظمة تيكا السفارة التركية 2015م
كما تمت استضافتي في ملتقى أشهر خطاطي المصحف في المدينة المنورة، واستضافتي في مهرجان الخط العربي في الجزائر العاصمة، واستضافتي في مهرجان المنمنمات والزخرفة الإسلامية في تلمسان الجزائر.

ما هي طموحاتك ورغباتك؟
تطلعاتي كبيرة؛ أهمها إنشاء مركز متخصص في فن الخط العربي والفنون الإسلامية (بشكل عام) يهتم بتعليم وتدريب الفنون الإسلامية وإقامة المعارض المتخصصة في هذا المجال.

كلمة أخيرة؟
بالتزامن مع احتفالات اليوم العالمي للغة العربية هذه السنة، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتعليم والعلوم والثقافة اليونسكو الخطَ العربي في قائمتها للتراث الثقافي غير المادي وذلك بعدما تقدمت 16 دولة عربية، من بينها اليمن والجزائر ومصر والأردن، بطلب لهذا الغرض.
وتهدف هذه القائمة إلى زيادة الوعي بالتراث غير المادي وضمان الاعتراف بتقاليد المجتمعات ودرايتها التي تعكس تنوّعها الثقافي، وهذه فرصة للنهوض بالخط العربي وانتشاله من الواقع المؤلم، وهذا سيثمر من خلال توجه القائمين في وزارة الثقافة نحو تبني هذا الموضوع واستغلال الموارد المتاحة من اليونسكو ومن الدولة لإظهار هذا الفن.

قد يعجبك ايضا