لا تبدو الأزمة الدائرة بين روسيا وأمريكا وحلفائها الغربيين حول أوكرانيا اليوم، بعيدة عن تاريخ صراع جيواستراتيجي حافل في الفضاء الحيوي الروسي بدءا من تحولات القطب الواحد في تسعينيات القرن الماضي، وصولا إلى الأزمات في جورجيا عام 2008م وشبه جزيرة القرم عام 2014م، ما يعني أن الأزمة الدائرة اليوم ليست متعلقة فقط بالخلاف الروسي الأوكراني حول دونباس أو ضم أوكرانيا للناتو، بل بترتيبات النظام العالمي وموقع الأقطاب الأمريكية والروسية والصينية منه.
تحليل / أبو بكر عبدالله
على أن العالم حبس أنفاسه على وقع حرب وشيكه بين روسيا وأمريكا وحلفائها الغربيين على ضوء الأزمة المتفاقمة في شرق أوكرانيا، كانت عواصم العالم تنتظر الرد الأمريكي على قائمة الضمانات الأمنية التي طالبت بها موسكو، كمعطى جديد يمكن أن يعيد الأطراف إلى المسار الدبلوماسي، غير أن الرد الأمريكي لم يقدم جديدا في ظل اتباع أطراف الأزمة «تكتيك حافة الهاوية» الذي أبقى تداعياتها مفتوحة على كل الاحتمالات.
في الشهر الماضي قدمت روسيا إلى واشنطن قائمة ضمانات أمنية طالبت بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو وإنهاء النشاط العسكري للحلف في رومانيا وبلغاريا وسحب قوات وأسلحة الناتو من دول أوروبا الشرقية التي انضمت إليه سابقا كبولندا والبلطيق وجمهوريات استونيا ولاتفيا وليتوانيا، وعدم نشر صواريخ استراتيجية قرب روسيا، غير أن الرد الأمريكي رغم عدم إعلانه رسميا كان واضحا من خلال تصريحات المسؤولين الأمريكيين، برفض ممارسة روسيا الوصاية على دول أوروبا الشرقية وتأكيد سياسة الباب المفتوح للناتو.
هذا الأمر عبَّر عنه وزير الخارجية الروسي الذي أكد أن الرد الأمريكي لم يكن إيجابيا في القضية الرئيسية، وأنه يوفر أسساً لمحادثات جادة فقط في الأمور ذات الأهمية الثانوية، ما يعني أن الرد الأمريكي لم يستجب لمطالب موسكو الأساسية بوقف توسع الناتو شرقًا، كما سيفتح الطريق لما اعتبرته موسكو «التداعيات الأكثر خطورة في حال تمّ تجاهل قلقها المشروع”.
والمطالب الروسية مثَّلت جوهر الأزمة القديمة الجديدة بين روسيا والغرب، فقبل ثلاثة عقود تعهد حلف الناتو بعدم الاقتراب من روسيا، لكنه عاد اليوم بمشاريع تسعى لتوسيع الحلف بضم أوكرانيا وجورجيا، اللتين تراهما روسيا منطقتي نفوذ جيواستراتيجي، استنادا إلى التقارب الجغرافي ومخاطر اقتراب الناتو على قواتها ومكانتها في السلم والحرب.
هذا الأمر عبَّر عنه بوضوح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما أرسل أكثر من 100 ألف جندي روسي إلى حدود أوكرانيا، استنادا إلى عقيدته التي ترى في توسّع الناتو شرقا قضية بالغة الحساسية، وهو ذاته مبدأ مونرو الذي تعتمده واشنطن في أمنها الإقليمي منذ عقود، ويقضي بعدم السماح لأحد تهديد نفوذها في المناطق القريبة منها.
جذور الأزمة
يمكن فصل الأزمة بين روسيا والغرب إلى مسارين، الأول يكمن في المساعي الأمريكية الغربية لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو والذي تعتبره موسكو تهديدا لأمنها القومي ولخصه خطاب الضمانات الأمنية الخطِّيَّة التي تطالب بها روسيا.
أما المسار الثاني فيتعلق بالأزمة في الشرق الأوكراني والاتهامات المتبادلة بين موسكو وكييف بعدم الامتثال لاتفاقيات مينسك بشأن الحكم الذاتي لإقليم دونباس، والذي كان محور اجتماع رباعية نورماندي في باريس وسعت فيه روسيا إلى حض فرنسا وألمانيا الدولتين الأقوى في الاتحاد الأوروبي على ممارسة الضغوط على كييف للامتثال لاتفاقية مينسك سعيا لكبح محاولات أوكرانيا استعادة مناطق يسيطر عليها انفصاليون تدعمهم روسيا.
واستنادا إلى أن الخلاف الروسي الأوكراني حول إقليم دونباس ليس جديدا ويمكن احتواؤه بالقنوات الدبلوماسية، فقد ركزت موسكو تحركاتها نحو واشنطن باعتبار محاولاتها ضم أوكرانيا للناتو التهديد الأول لأمنها الداخلي.
لم تتردد موسكو عن نشر قوات ضاربة على الحدود مع أوكرانيا لمواجهة هذه الخطوة، فهي ترى أن ثمن التقاعس عن التهديدات العسكرية اليوم سيكون أعلى من ثمن التصعيد العسكري، في رؤية تعيد إلى الأذهان الثمن الذي دفعته روسيا في الحرب العالمية الثانية عندما تفاجأت بغزو نازي لأراضيها بعد أن تقاعست عن ردع القوات الألمانية التي تمركزت قرب حدودها آنذاك.
الحال ذاته لدى الكرملين الذي يشعر أن تعاميه عن محاولات واشنطن ضم أوكرانيا لحلف الناتو سيكلف روسيا الكثير ليس أقلها الانجرار مستقبلا في معركة استنزاف طويلة الأمد مع أوكرانيا بدعم من واشنطن ومن ورائها الناتو.
ووفقا لذلك أدرك الروس مسبقا أن أي تفاهمات مع أوكرانيا بشأن هذا الملف لا طائل منها وأن المطلوب هو تفاهمات والتزامات مع واشنطن وحلفائها الغربيين عبَّر عنه طلب الضمانات التي قدمتها لواشنطن والناتو لتعزز أمن فضائها الحيوي بصور تتجاوز كبح توجهات الجارة الأوكرانية نحو الناتو إلى وقف زحف الناتو شرقا ووقف تسليح كافة الدول القريبة من روسيا.
ولا دليل على ذلك أكثر من النتائج السهلة التي أفضت إليها مباحثات رباعية نورماندي التي رجحت نجاح الدبلوماسية الغربية في حلحلة ملف الخلاف الروسي الأوكراني حول إقليم دونباس، في مقابل بقاء ملف انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو عصيا على الحل، في ظل اتجاه واسع نحو تصعيد ينذر بخطر اندلاع حرب كبيرة، فطرفا الحرب هما روسيا الدولة النووية وصاحبة الجيش الأقوى في شرق الكرة الأرضية، والولايات المتحدة المهيمنة بسياساتها العسكرية والاقتصادية والسياسية على العالم.
أهداف بعيدة
كثير من العطيات تشير إلى أن إدارة بايدن تحاول بهذه الأزمة الظهور بصورة أكثر حزما من إدارة أوباما التي يُعتقد أنها تعاملت بتراخ مع موسكو بعد ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014م، كما تحاول استعادة ثقة العالم بها كقوة وحيدة مهيمنة بعد الهزة التي أحدثها الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان وشرق إفريقيا والعراق وخصوصا مع حلفائها الأوروبيين.
أكثر من ذلك خشيتها من أن يؤدي التحرك الروسي في أوكرانيا إلى تشجيع خصوم آخرين للولايات المتحدة على القيام بأفعال مشابهة وخصوصا الصين التي تتهمها إدارة بايدن بالقيام بمحاولات لاجتياح تايوان وكذلك إيران.
هذا الأمر بدا واضحا بعد فشل مباحثات بوتين ـ بايدن، في محاصرة الأزمة والتصاعد الخطير لها غداة إعلان واشنطن وضع آلاف الجنود الأمريكيين في حالة تأهب وإرسال شحنات أسلحة أمريكية وأوروبية إلى أوكرانيا، والإفصاح عن نيَّة الرئيس بايدن نشر آلاف الجنود وسفن حربية وطائرات لحلف الناتو في دول البلطيق وأوروبا الشرقية، بالتزامن مع إرسال موسكو قوات عسكرية إلى بيلاروسيا وبدء مناورات عسكرية في الجنوب وشبه جزيرة القرم، في تداعيات أشارت إلى أن خيار المواجهة العسكرية بات وشيكا.
وعلى أن ما يجري اليوم على الحدود الروسية، يعيد إلى الأذهان معطيات الأزمة مع جورجيا وشبه جزيرة القرم، فإن خيارات موسكو لا تخلو من أهداف سياسية أيضا، فهي تحاول توجيه رسائل سياسية وأمنية تعيد من خلالها التأكيد على مكانتهما الدولية وقدرتهما على مواجهة واشنطن والناتو.
وبما أن بوتين واستنادا إلى معطيات داخلية كثيرة لا يملك أن يظهر بصورة من يتراجع أمام التهديدات الأمريكية والأطلسية، فالمرجح أن يستجيب لتفاهمات دبلوماسية في مسار أزمة شرق أوكرانيا، غير أنه لن يسحب قواته المستعدة لمواجهة تداعيات توسع حلف الناتو، قبل الوصول إلى صفقة تحفظ له مصالحه.
ورغم أن المشهد العام للأزمة لا يخلو من أهداف جيوسياسية أمريكية روسية، إلا أن التحركات الأخيرة أوحت للمجتمع الدولي بأن واشطن تبحث عن معادلة صفرية في أمنها وحلفائها الأوروبيين على خلاف روسيا التي بدت في كثير من مواقها وتحركاتها مدافعة عن الأمن الجماعي.
وما يدعم ذلك هو إقرار أكثر الدول الغربية بإعلان إسطنبول الذي يؤكد أن توسيع أي حلف عسكري يجب أن يأخذ بعين الاعتبار بواعث القلق الأمني لكل الدول وهو ما يمنح التحركات الروسية مشروعية أكثر من تحركات نظيراتها الغربية.
حافة الهاوية
تكتيك «حافة الهاوية» الذي اعتمدته موسكو بتعاطيها مع أزمة أوكرانيا والناتو، قاد واشنطن أيضا إلى ذات السياسة، وتجلى ذلك بوضوح في التصعيد المتبادل والتهويل الذي أصاب العالم بالذعر.
ورغم هيمنة لغة التهديد العسكري على مواقف واشنطن، إلا أن ردودها بدت متوازنة مع مقتضيات ميثاق حلف الأطلسي أولا وثانيا مع الخطوات الروسية على الأرض.
ذلك أن التصعيد العسكري شرقا بالنسبة للولايات المتحدة له شروط هي من قادت واشنطن إلى الإعلان بأنها لا تفكر بإرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا لخوض حرب مع روسيا، وشروعها بتسليح الجيش الأوكراني بأسلحة استراتيجية متطورة، وتوعدها بفرض عقوبات قوية قد تدمِّر الاقتصاد الروسي، بالتوازي مع تحركات مشابهة لبعض حلفائها الغربيين الذين يخشون في الواقع التورط في حرب مباشرة مع موسكو قد تهدد دول القارة الأوروبية والعالم.
لكن المرجح أن تصريحات واشنطن بعدم إرسال قوات إلى أوكرانيا لن تنقل أطراف الأزمة إلى المسار الدبلوماسي، فأوكرانيا في الأساس ليست عضوا في حلف الناتو حتى الآن، في حين أن سلاح العقوبات التي أعلنتها واشنطن وحفاؤها الغربيون لن تختلف في تأثيراتها على روسيا عن التدخل العسكري المباشر، وهو ما عبَّر عنه الكرملين مؤخرا بالقول “إن التهديد بالعقوبات يرقى إلى الهجوم على مصالحنا التجارية”.
وثمة تقديرات تقول إن المفاوضات الدبلوماسية بين روسيا والغرب بشأن انضمام أوكرانيا إلى الناتو -حتى لو حدثت- فلن يكتب لها النجاح، ما يفسر تسارع الطرفين نحو الوسائل العسكرية التي يصعب حسمها سوى بصفقات سياسية تنهي فرص الخيار العسكري.
هذا ما فسَّر المواقف الأوروبية التي بدت أكثر ليونة من الموقف الأمريكي المتشدد، وإشارتها إلى ما سمته التهويل الأمريكي غير المبرر، بالتزامن مع شروعها بتحركات دبلوماسية تكللت بلقاء رباعية نورماندي (موسكو ـ كييف ـ باريس ـ برلين) في باريس التي تتولى حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، أملا في فتح الطريق لجولات قادمة تضع في أولوياتها تنشيط المسار الدبلوماسي من الجانب الأوروبي دون الابتعاد عن المسار الأمريكي الذي تعتبره أوروبا أساسا في معادلتها الأمنية.
تحريك المسارات
لا يبدو أن الحلفاء الغربيين لأمريكا ومعهم أوكرانيا سيقبلون بأن تتصرف واشنطن مع هذه الأزمة من زاوية مصالحها، فمنذ التجربة المريرة للاتحاد الأوروبي مع الرئيس الأمريكي السابق ترامب، عمد التكتل الأوروبي إلى تقييم مواقف الولايات المتحدة بشكل مختلف، حتى صار من الواضح أن مبدأ «المستفيد والخاسر» هو ما يحكم الموقف الأوروبي أكثر من أولويات التحالف الاستراتيجي.
وهذا المبدأ هو ذاته الذي يحكم دول أوروبا الشرقية القريبة من المعسكر الغربي بما في ذلك أوكرانيا وعبَّر عنه بوضوح رئيسها فولوديمير زيلينسكي عندما طالب أمريكا ودول الغرب بعدم إثارة الذعر، في إشارة إلى التحذيرات الأمريكية من غزو روسي محتمل لأوكرانيا وقوله إن “هذا الحديث المتزايد يعرِّض اقتصاد أوكرانيا للخطر”.
ومن الخطأ تفسير موقف الرئيس الأوكراني من « التهويل الأمريكي» بأنه تعبير عن انقسام داخلي، بل موقف ثابت أكده وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف بالقول “إنه لا توجد أسباب كافية للاعتقاد بأن روسيا تستعد لغزو وشيك»، وهو ذات الموقف الذي عبَّر عنه وزير الخارجية الأوكراني ديمتروكوليبا عندما شدَّد على أن تظل الولايات المتحدة على اتصال وثيق بأوكرانيا قبل وبعد كل الاتصالات مع روسيا وإشارته إلى ما سماها “القاعدة الذهبية” التي تقول «لن تكون هناك قرارات بشأن أوكرانيا بدون أوكرانيا».
يضاف إلى ذلك التحركات الأوكرانية على الأرض والتي تجنبت خلال الفترة الماضية نشر قواتها على الحدود الروسية وتكثيف قواتها ـ حوالي 120 ألف جندي ـ على خطوط التماس مع إقليم دونباس، رغم أن المساحة الأكبر من حدودها تقع على الجانب الروسي.
ومن ناحية أخرى فإن الأوروبيين يعرفون أن دفع واشنطن بالأزمة إلى حافة الهاوية لا يعني قبولها بالتصعيد العسكري مع موسكو، فتداعياته الاقتصادية الوخيمة سوف تشمل الجميع، خصوصا في ظل أزمة كورونا التي تجتاح أمريكا وأوروبا وروسيا، كما أن تداعياته ستؤثر بشدة على الشراكة الاقتصادية الأوروبية مع موسكو التي تعد أكبر مزوِّد للغاز للقارة الأوروبية، ما دعا فرنسا ودول أوروبية أخرى إلى تشجيع إحياء مسار مينسك الدبلوماسي بصورة انفرادية بعيدا عن التزامات تحالفها مع واشنطن.
وما يعول عليه الجناح المعتدل في الحلفاء الغربيين لأمريكا، هو إمكانية تجميد الموقف العسكري وتحريك المسار الدبلوماسي عبر رباعية نورماندي لإحياء مسار المفاوضات لتلافي ما هو أسوأ.
هامش مناورة
على ضوء النجاحات التي حققتها الجهود الدبلوماسية الأوروبية في الفترة الأخيرة، بفتح مجالات الحوار مع روسيا وتجميد الموقف العسكري بعد إقناع أوكرانيا الابقاء على جيشها ( نحو 120 ألف جندي) في المواقع المتقدمة على جبهة إقليم دونباس في حالة استعداد، دون وقوع احتكاكات مع الجيش الروسي المرابط على الحدود ودون وقوع اشتباكات مع قوات جمهورية دونيتسك الشعبية، تبدو فرص عودة واشنطن إلى المسار الدبلوماسي مرجحة في الفترة القادمة، يدعم ذلك تأكيد واشنطن استعدادها دعم أي مبادرات دولية لخفض التصعيد شرق أوكرانيا، وكذلك تصريحات وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند مؤخرا، والتي أكدت أن واشنطن مستعدة لمحادثات ثنائية، بعد أن كانت قد رفضت في السابق ذلك، ناهيك عن دعوتها الصين إلى استخدام نفوذها لحمل روسيا على العودة إلى القنوات الدبلوماسية.
ورغم توحد الموقف الأوروبي بشأن الأزمة الروسية الأوكرانية المتعلقة بإقليم دونباس، إلا أنه لا ينزال منقسما حيال الخيارات الأمريكية البريطانية من ملف انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
ومع ذلك فإن المرجح كثيرا أن يخفف حلفاء أمريكا الغربيون عدا بريطانيا من لغة الخيار العسكري، كما يتوقع أن تنحو الدول الأوروبية الكبيرة منحى مستقلاً عن التوجهات الأمريكية ما سيعطي بصيص أمل في تعديل بوصلة الحرب نحو المسارات الدبلوماسية، فأكثر الأوروبيين يدركون أن الحرب مع روسيا لن تكون نزهة، كما أن احتمالات تطورها إلى حرب نووية تبقى الكابوس الذي يؤرِّق أوروبا، لأنه ببساطة سيدخل أوروبا والعالم في ظلام لعقود.