في أحد اللقاءات التلفزيونية، سُئل الزعيم الماليزي مهاتير محمد عن سر نهضة ماليزيا، فأجاب “إن أهم درس تعلمته من تجربتي في الحكم أن مشاكل الدول لا تنتهي، لكن علاجها جميعاً يبدأ من التعليم” ..
بهذه الكلمات القصيرة أنهى مهاتير إجابته ..
تجتهد كثير من بُلدان العالم على الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي، إيماناً منها أنه الوسيلة المُثلى التي يُمكن أن تنهض بالعقل البشري. لا تدّخر البُلدان وسيلة في سبيل ذلك، لتحصُد ثمار تلك الجهود في مجالات مختلفة، فالاستثمار الحقيقي الذي يمكن أن يُؤسّس لحضارة، هو الاستثمار في الإنسان، وهو أعظم استثمار، والعقل البشري المتعلِّم المحصَّن بالمعرفة والمعلومة، هو القادر على أن يتجاوز الصّعاب، وأن يوجد الحلول بطريقة إبداعية توفِّر الكثير من الوقت والجهد والمال .
منذ ٧ سنوات تقريباً يُعاني اليمن، الذي يتعرَّض لعُدوان عسكري واقتصادي استهدف بنيته التحتية ومنظومته التعليمية، وغدا الكثير من أولياء الأمور عاجزين عن مواصلة تعليم أبنائهم، مما اضطرّهم إلى حرمانهم من الذهاب إلى المدرسة بسبب ضيق ذات اليد، وبسبب دمار جزء من المدارس بالإضافة إلى وجود نقص كبير في الكادر التدريسي في كثير من المدارس الحكومية التي تعاني هي الأخرى من مشاكل لا حصر لها، ما أدّى إلى زيادة الطلب على المدارس الأهلية، وبالتالي زيادة الأعباء المادية على كثير من أولياء الأمور .
اليمن الذي يُعاني أصلاً من تفشّي الأمية وتسرُّب نسبة كبيرة من طُلاب المدارس تحدّثت عنها أرقام مُخيفة، تُفيد بأن نسبة الأمية في عام ٢٠١٤م قد بلغت ٦٥%، ومليوني طفل خارج المدرسة، اليوم تزداد معاناته بسبب انهيار المنظومة التعليمية بعد شن العدوان وانقطاع المرتبات، حيث غَدَت كثير من المدارس أحجاراً يزورها بعض الطُلاب من الطبقة المسحوقة، بعد أن غادرها كثير من المدرسين ليلتحقوا بمدارس أهلية تضمن لهم مُرتّباً يمكن أن يُبقيهم وأولادهم على قيد الحياة، وفي وقت يُكرَّس الاهتمام بجوانب كثيرة في مُختلف المجالات يُشكر القائمون عليها، لكن تلك الجهود لا زالت تتغافل عن إنقاذ ما تبقّى من النظام التعليمي .. !!
لا أعتقد أن من واجَه باقتدار آلة عسكرية وإعلامية، مكوّنة من أكثر من ١٧ دولة، عاجز عن إيجاد حلول لهذه المُعضّلة لأجيال محرومة من التعليم، والتي هي بمثابة قُنبلة موقوتة ستدفع البلاد ثمناً باهظاً، وسندفع جميعاً أضعافاً مضاعفة لمعالجة آثارها الكارثية، خلال السنوات المُقبلة، وستُبقينا متأخرين عن بقية شعوب العالم لعشرات السّنين، فكم هو مُحزن أن تُشاهد أطفالاً في عمر الزهور، وهم في الجولات يعملون أو يتسوّلون في وقت يُفترض أنهم يتلقّون تعليمهم في المدرسة !!
فكما قطعْنا بنجاح في مُدّة قصيرة جداً وفي ظروف صعبة شوطاً كبيراً في المجال الزراعي والعسكري، وحقّقنا الاكتفاء الذاتي في كثير من الأصناف، فنحن بحاجة في الوقت الراهن إلى توجيه الجهود للاهتمام بالعملية التعليمية، وذلك يتطلّب تفعيل صندوق دعم المعلم والتعليم الذي أقرّه مجلس النواب عام ٢٠١٩م، على أن يتم استبعاد المدرسين المتغيّبين والمُنقطعين وإحلال مدرسين أكْفاء بدلاً عنهم، بحيث نضمن توفّر كادر تدريسي مؤهَّل ومُنتظم في جميع المدارس، سواءً في الريف أو المدينة، مع تشديد الرّقابة على عملية الحضور والغياب، وهنا أتساءل عن مصير تلك الأموال التي تُستقطع لرفد هذا الصندوق (المعفي من الضرائب) من كل علبة سجائر وكرتون مياه وكرتون عصير، ومن كل اتصال ومن كل كيس أسمنت، ومن كل تذكرة سفر، ومن كل لتر بترول وديزل، ونسبة من ضرائب مبيعات القات، خلافاً للرّسوم الدّراسية الشَّهرية التي يدفعها الطُّلاب، وتبرعات المُنظمات في وقت يُعاني فيه المعلم الأمرّين، بعد وعود لم يتم تنفيذها، وللأسف بتسليمه مبلغ ٣٠ ألف ريال شهرياً بشكل منتظم، رغم بساطة هذا المبلغ ..!!
ما نحن بحاجة إليه اليوم هو عقد مؤتمر خاص بالتعليم تُحشد فيه جميع الأفكار والإمكانات والرؤى التي من شأنها إحداث ثورة حقيقية في المجال التعليمي، وإيجاد الحلول الناجعة التي تضمن للمعلم مرتباً يحفظ له كرامته، ويقيه عناء السؤال، ليقدّم جُل ما لديه، فبقاء التعليم بهذه الصورة المُزرية لا يعدو شكلاً من أشكال الفساد، وامتداداً لزمن المُفسدين الذين تعمّدوا استمرار عملية التجهيل لأغراض في نفوسهم، وممَّن تعارضت مصالحهم من مُلاّك مدارس خاصة مع المصلحة العامة، كما أن الصّامتين عن ذلك الخَلَل اليوم، هم في حُكم الساكتين عن الحق، والسّاكت عن الحق شيطان أخرس.
قد يعترض أحدهم بحُجّة أن بقية القوى العاملة في البلد بحاجة لمُرتب، ومع تقديرنا لذلك إلا أنَّ خُصوصية شريحة المعلمين تفرض علينا منحها الأولوية، لأن العملية التعليمية اليوم التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، تستند إلى هذه الشّريحة، وهذه الخصوصية موجودة في كثير من بلدان العالم، فراتب ومزايا المعلم في كثير من تلك البلدان، قد يفوق راتب المهندس والطبيب، كون المعلم، هو أساس بناء المجتمع ونهضته.
ولْنستلهم العظات والعبر من شعوب ودول كانت تعيش في العصور الوسطى، لكنّها اليوم أصبحت من أعظم وأقوى دول العالم على جميع المستويات، بسبب اهتمامها بالتعليم، رغم شحّة مواردها، وكما يُقال إن تدمير بلد لا يتطلّب استعمال القنابل الذرية أو الصواريخ، يكفي تخفيض نوعية التعليم والسماح بالغش في الامتحانات، حينها سيموت المريض بين يدي الطبيب، وسيُهدر المال على يد الاقتصادي، وستموت الإنسانية على يد علماء الدين، وستضيع العدالة على يد القضاة، إن انهيار التربية والتعليم كفيل بانهيار أمة.
اليوم نحن بحاجة إلى ثورة تعليمية يتم فيها قبل كل شيء إعادة تأهيل المعلم بمعايير تُؤسِّس لنظام تعليمي تربوي مسؤول، بحاجة إلى مُعلم قدوة يهتم بهندامه وأسلوب خطابه تجاه تلاميذه، يزرع فيهم الأمل والقيم والأخلاق، قبل أن يزرع في عقولهم المادة العلمية، بحاجة إلى تحديث طرائق التدريس، بأساليب متطورة يتم فيها محاكاة المناهج العلمية الحديثة التي تُحقّق الأهداف المرجوَّة منها، وتُحسّن من جودة توصيل المعلومة، وصناعة طُلاب يتعلّمون كيف يفكّرون ويبحثون، لا كيف يحفظون من أجل الظفر على قليل من الدرجات، فالأنظمة التعليمية في كثير من بُلدان العالم يتم تحديثها بشكل مُستمر، بما يتواءم مع الحاجات الإنسانية ومتطلّبات سوق العمل، بعيداً عن الأساليب التقليدية التي عفا عليها الزمن، ولم تعُد صالحة لإنتاج جيل مُتسلِّح بالعلم، بينما لا نزال لا نُبارح عقلية التّلقين والضرب والكم الهائل من الواجبات، والتهديد بإعادة السنة وما إلى ذلك من أساليب توحي وكأنك في مؤسسة عسكرية وليست تعليمية !!
*رئيس الجمعية اليمنية لحماية وتشجيع الإنتاج المحلي**